نزار الجليدي يكتب: حين يختبر محمد بن سلمان صلابة التحالف بين السعودية والولايات المتحدة


في ماي الماضي، أنهى دونالد ترامب جولة خليجية شملت قطر والسعودية والإمارات، وغادر المنطقة محمَّلًا بوعود استثمارية غير مسبوقة، من بينها 600 مليار دولار سعودية موجَّهة إلى الولايات المتحدة. بعد ذلك مباشرة، أرسلت واشنطن إشارات انفتاح تجاه الرئيس السوري الجديد– والإرهابي القديم – أحمد الشرع. ومنذ تلك اللحظة، بدأت الرياض في اختبار هوامشها — في ملف الطاقة، وفي الموقف من سوريا، وفي تقاربها المتدرّج مع إيران — بينما تعاني الإدارة الأمريكية من شللٍ جزئي بسبب الإغلاق الحكومي.
التحالف الأمريكي-السعودي بنسخته لعام 2025 لم يعد علاقة عاطفية، بل صفقة باردة بكل المقاييس. بين 13 و16 مايو، زار ترامب الرياض بعد الدوحة وقبل أبوظبي، وأعلن البيت الأبيض حينها عن التزام سعودي باستثمارات تبلغ 600 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى عشر سنوات، تشمل قطاعات الطاقة والدفاع والتكنولوجيا والمعادن والبنية التحتية. تقارير المراكز الاقتصادية وشركات الاستشارات الأمريكية قدّرت مجموع الالتزامات الإقليمية خلال تلك الجولة الخليجية بأكثر من تريليوني دولار. وفي الإيقاع نفسه، قامت واشنطن بفكّ عقدة الملف السوري سياسيًا: لقاء ترامب – الشرع في الربيع، ثم رفع مكانة “الرئيس-الإرهابي” في الأمم المتحدة خلال الجمعية العامة، وهي أول مشاركة لرئيس سوري في هذا المحفل منذ عام 1967. الرسالة السعودية واضحة تمامًا: المال يشتري النفوذ، والنفوذ يغيّر المواقف.
اتفاق اقتصادي بطعم المقايضة الجيوسياسية
جوهر الصفقة يمكن قياسه بالأرقام. ستمئة مليار دولار من الاستثمارات السعودية وُعِدت بها الولايات المتحدة، موزعة على استثمارات مباشرة ومشروعات مشتركة في القطاعات الحسّاسة: التكرير والبتروكيميائيات المتقدمة، الذخائر والمكوّنات، أشباه الموصلات، سلاسل المعادن الإستراتيجية، إضافة إلى الخدمات اللوجستية والموانئ وشبكات الكهرباء. هذه الالتزامات تُضاف إلى سلةٍ إقليمية أوسع — قطر تحدّثت عن استثمارات تصل إلى 1.2 تريليون دولار، والإمارات عن أكثر من 1.4 تريليون خلال عشر سنوات — ما يجعل الخليج العربي المموّل الأول لإعادة التصنيع الأمريكي ولسلاسله الإنتاجية. بالنسبة لترامب، إنها مواطن شغل ومصانع جديدة؛ أمّا بالنسبة لمحمد بن سلمان، فهي حقّ نظري في التأثير على الخيارات الإستراتيجية لواشنطن.
وفي الاتجاه نفسه، بدأ الملف السوري بالتحرّك. ففي الربيع، تكاثرت الإشارات العلنية: لقاء ترامب – الشرع، تصريحات خبراء تتحدث عن “تطبيع مشروط” بدعم أمريكي، ثم زيارة الشرع لنيويورك في سبتمبر متحدثًا عن “دولة سورية موحّدة ومستقرة”. لا تصل الأمور بعد إلى اعتراف قانوني صريح، لكنها تعكس قبولًا فعليًا: توقف الخطاب العدائي، إعادة فتح القنوات السياسية، وإقرار ضمني بتوازنٍ جديد رسمه محمد بن سلمان. المقايضة باتت واضحة: رؤوس أموال ضخمة مقابل تليينٍ للموقف الأمريكي في المشرق.
هذا النمط يفضح منهج ولي العهد: الدفع لتغيير مركز الثقل. التدفقات المالية تشتري الوقت والمرونة في واشنطن، وفي المقابل تنال الرياض ضماناتٍ أساسية (في الملف السوري)، ومسافةً تفاوضية أوسع تجاه إسرائيل، ودعمًا لإدارة “أوبك بلس” بالشراكة مع روسيا. تحالفٌ يُعاد كتابته: ولاء أقل، شروط أكثر، ورسالة مبطَّنة إلى البيت الأبيض: “الولاء السعودي له ثمن، وهذا الثمن يشمل الأولويات الإقليمية السعودية”.
واشنطن المشلولة: الإنغلاق الحكومي كمرآةٍ للضعف
بينما كانت الرياض تُظهر نفسها كشريك لا غنى عنه لواشنطن، عاد دونالد ترامب إلى بلدٍ شبه متوقف. فمنذ أواخر سبتمبر، تعيش الإدارة الفيدرالية حالة شللٍ بسبب الجمود في تمرير الموازنة. أكثر من مليوني موظف حكومي يتلقّون رواتبهم بتأخير، وقطاعاتٌ مثل الطيران والمتنزهات الوطنية تعمل بأدنى طاقتها، فيما تُواصل بعض الوكالات الأمنية عملها من دون تمويلٍ مضمون. الكونغرس المنقسم فشل في التوافق على قانونٍ للمالية العامة، ما وضع ترامب في موقفٍ حرج: عليه إدارة أزمة داخلية خانقة بالتوازي مع التزاماتٍ خارجية ثقيلة.
في هذا السياق، يرى الشركاء الأجانب رئيسًا مستنزفًا بمعاركه الداخلية. مفاوضاته المتواصلة مع الديمقراطيين ومع جزءٍ من الجمهوريين المعارضين لخطّه المالي تستهلك وقته ورصيده السياسي. بالنسبة لمحمد بن سلمان، هذا الاختلال يشكّل فرصةً مثالية: فهو يدرك أن ترامب بحاجةٍ إلى عرض إنجازاتٍ اقتصادية ودبلوماسية لجمهوره الانتخابي. لذلك يُكثّف ولي العهد السعودي خطواته الاستعراضية — استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، انفتاح تجاه إيران، ودورٌ محوري في الملف السوري — لاختبار مدى صبر واشنطن.
الإغلاق الحكومي الأمريكي يعمل إذن ككاشفٍ للخلل. فهو يُظهر هشاشة الآلة المؤسسية الأمريكية، ويجبر البيت الأبيض على ترتيب أولوياته. أما الدبلوماسية السعودية، فتستغل الفرصة لتمرير ملفاتٍ كانت، في الظروف العادية، ستواجه معارضةً أمريكية أشد.
أوبك +: زيادة مدروسة تحمل رسالة سياسية
بالتوازي، جاءت خطوة أوبك بلس برفع الإنتاج بشكل طفيف — نحو 137 ألف برميل يوميًا — ضمن منطق شدّ الحبل القائم بين الرياض وواشنطن. القرار يبدو تقنيًا في ظاهره، لكنه سياسي في جوهره. فمنذ الربيع، كانت الأسواق تتوقّع أن تعتمد المنظمة سياسة تقييد للحفاظ على الأسعار المرتفعة، لكن السعودية اختارت العكس: فتحت الصنبور قليلًا، جزئيًا استجابةً لضغوط كبار المستوردين الآسيويين، وجزئيًا لتذكير الجميع بأن مفتاح التوازن النفطي لا يزال بيدها.
هذه الزيادة، التي أتت بعد أشهر من التنسيق الوثيق مع موسكو، لم تُحدث صدمة في السوق العالمية، لكنها وجّهت رسالة واضحة: الرياض قادرة على التحرك بمعزلٍ عن الإملاءات الأمريكية. بالنسبة لترامب، الذي يعوّل على أسعار طاقة معتدلة لتخفيف غضب الناخبين وكبح التضخّم، كانت الرسالة قاسية: صنبور النفط السعودي لا يُدار تلقائيًا من البيت الأبيض.
اختيار هذا التوقيت لم يكن مصادفة. فالمملكة تُظهر أنها تمسك بخيوط المشهدين، الاقتصادي والدبلوماسي، في آنٍ واحد. تقاربها مع موسكو، وانفتاحها على طهران، والمليارات التي تضخها في الولايات المتحدة، كلها عناصر ضمن استراتيجية واحدة: توزيع الأوراق بحيث لا تعتمد كليًا على أي طرف.
اللعبة التي ترسمها الرياض لم تعد لعبة “التابع” الباحث عن مظلة واشنطن، بل لعبة فاعلٍ إقليمي يعرف حجمه ويسعى لاستثماره. ومن خلال إشارات الاستقلال المتكررة — تقارب غير مسبوق مع إيران، تنسيق واضح مع روسيا، وزيادة محسوبة في إنتاج أوبك بلس — تُوجّه السعودية إنذارًا صريحًا: الأولويات الأمريكية لم تعد كافية لتوجيه سياساتها.
إدارة ترامب المشلولة تزيد هذا الخلل وضوحًا، وتمنح محمد بن سلمان هامش مناورة أوسع لاختبار حدود النفوذ الأمريكي. ما يجري ليس قطيعة فورية، بل إعادة ضبطٍ للعلاقات: السعودية لا تدير ظهرها لواشنطن، لكنها تذكّرها بأن ولاءها أصبح مشروطًا، وأن لديها الآن بدائل حقيقية. في هذا التوازن الدقيق، كل إشارةٍ سعودية تحمل تحذيرًا ضمنيًا: الولايات المتحدة لم تعد الحكم الوحيد في الخليج العربي، وهو معطى سينعكس على كل ملفات الشرق الأوسط وغرب آسيا في المرحلة المقبلة.