نزار الجليدي يكتب: فرنسا: جمهورية عاقر، رئيس معزول، وشعب على حافة الانفجار


من دون رئيس حكومة فعّال ولا ميزانية لسنة 2026، تغرق السلطة التنفيذية الفرنسية في أزمة سياسية ومالية تُقلق الأسواق وشركاءها الأوروبيين على حدٍّ سواء. الفرنسيون يطالبون، وبأغلبية واضحة، بخروج حاسم — حلٍّ للبرلمان أو إعادة ضبط مؤسساتي شاملة — فيما يلوح في الأفق سيناريو “السنة البيضاء” من دون ميزانية، بكل ما يحمله من تداعيات ثقيلة.
في فرنسا، حيث كان التصويت على المالية العامة يُعتبر طقسًا جمهوريًا راسخًا، باتت العملية اليوم رهينة معادلة مستحيلة: لا أغلبية، لا رؤية، ولا حتى جدول زمني ثابت. استقالة سيباستيان لوكورنو السريعة ضيّقت الهامش أكثر. ويمكن تلخيص المشهد في ثلاث حقائق:
أولًا، الرأي العام انقلب بالكامل — الحكم قاسٍ، والتطلّع إلى حلٍّ جذري يطغى على أي حديث عن تسوية.
ثانيًا، الأسواق تنظر إلى فرنسا بوصفها مصدرًا للقلق السياسي قبل أن تكون قضية اقتصادية.
ثالثًا، في غياب توافق برلماني، يبدو أن الحلّ المؤقت — “الاثنا عشر المؤقتة” — قد يصبح الخيار الوحيد، بثمنٍ باهظ على صورة الدولة وعلى النشاط الاقتصادي والائتمان الداخلي.
كيف وصلت فرنسا إلى هنا؟
رواية الإنحدار السياسي في فرنسا معروفة وموثقة، لكن نتائجها تتراكم في اتجاه واحد. في الجمعية الوطنية، لم تتشكل أي أغلبية مستقرة منذ حلّ برلمان 2024، والحكومة تتأرجح منذ ذلك الحين بين تحالفات هشة وتسويات ظرفية، إلى أن انهار كل شيء في الأسابيع الأخيرة. في الشارع، تغيّر المزاج العام: ثلاثة من كل أربعة فرنسيين يرون أن لوكورنو كان محقًا في الاستقالة — دلالة على أن الناس لم يعودوا يصدّقون إمكانية الخروج من مأزق ماكرون بالمناورات المؤسساتية.
هذا الإحباط يغذي رغبةً في القطع مع الماضي: 66٪ من الفرنسيين يريدون حلّ البرلمان والعودة إلى صناديق الاقتراع قريبًا — وهي نسبة ترتفع باطراد منذ جوان. أما الذين يجيبون “نعم تمامًا” فبلغوا 39٪، ما يعكس توقًا لإنهاء مرحلة الانسداد أكثر من السعي وراء تسوية مستحيلة.
الاستطلاعات ترسم الصورة نفسها سياسيًا: 82٪ يصفون الوضع بأنه “مسدود بالكامل”. ليست مجرّد أزمة ثقة، بل اقتناع بأن النظام القائم عاجز عن إنتاج ميزانية أو مسار واضح. في هذا الفراغ، ترتفع الأصوات المطالبة برئيس حكومة “من خارج الأحزاب”، بحثًا عن الكفاءة والحياد بدل طبقة سياسية لم تعد قادرة على جمع الأصوات أو الأفكار.
الإشكال الإجرائي يزيد الطين بلّة. إذا لم تُصادق الميزانية قبل 31 ديسمبر، ستُدار مالية الدولة شهرًا بشهر استنادًا إلى ميزانية 2025 — أي “الاثنا عشر المؤقتة” — التي تتيح دفع الأجور وجباية الضرائب فقط، من دون إطلاق أي سياسة جديدة. صورة دولة في حالة تشغيل أدنى. المواطنون يشعرون بذلك: تشديد في شروط القروض، مدّخرات وقائية مرتفعة، واستهلاك ضعيف. أما الشركات، فتواجه كلفة تمويل أثقل وتأجيلات في الاستثمار. السياسة والاقتصاد يدوران في حلقة واحدة: ما دام الأفق المؤسسي غامضًا، تتسع “علاوة المخاطر”، ومع كل يوم من دون تسوية يصبح اللجوء إلى الاستثناء أكثر احتمالًا. المؤكد الوحيد في هذا المشهد: الوضع الراهن لا يمول ميزانية. وما تعكسه الأرقام واضح — الفرنسيون لم يعودوا يريدون ترقيع النظام، بل إعادة بنائه من الأساس.
الحلول المالية المؤقتة: تدبيرٌ عاجل أم قنبلة موقوتة؟
في غياب أي توافق سياسي، تتيح الدستورية والعُرف للحكومة الفرنسية “عجلة نجاة” تُعرف بقانون “الاثني عشر جزءًا” (12/12èmes).يقوم هذا النظام على تقسيم ميزانية السنة السابقة إلى اثني عشر قسطًا شهريًا يُصرَّح بتنفيذها عبر تصويت تقني داخل البرلمان. عمليًا، يسمح ذلك للدولة بدفع رواتب الموظفين والمعاشات والنفقات الأساسية، إضافة إلى تحصيل الضرائب. من الخارج، يبدو هذا كآلية تمنع الشلل التام للجهاز الإداري. لكن في الجوهر، لا يحلّ شيئًا: فهو يُجمّد خيارات السنة الماضية ويمنع إطلاق أي سياسة جديدة.
في سنة 2026، اعتماد ميزانية 2025 كما هي يعني تجاهل التضخم الذي يبلغ حاليًا نحو 1,5٪. وهذا يؤدي آليًا إلى انخفاض نسبي في الإنفاق العمومي وتوفّر وفورات قسرية تُقدَّر بحوالي عشرة مليارات يورو. البعض قد يرى في ذلك تصحيحًا ضروريًا للمالية العامة، لكن في المقابل، تجميد جدول الضريبة على الدخل يجعل مئات الآلاف من الأسر ذات الدخل المحدود تدخل دائرة الضرائب تلقائيًا — أكثر من 600 ألف مساهم جديد السنة الماضية. أي أن فئات كانت بالكاد تستفيد من ارتفاع الأجور الاسمي قد تجد نفسها مطالبة بدفع ضرائب جديدة، ما يعمّق الإحساس بالظلم الاجتماعي.
أما المساعدات الاجتماعية، فستواصل الارتفاع تلقائيًا وفقًا للتضخم، شأنها شأن الحد الأدنى للأجور والمعاشات. غير أن غياب ميزانية جديدة يعني استحالة تمويل أي إصلاح حقيقي، سواء في التعليم أو الصحة أو الانتقال الطاقي. “الجمود المالي” يتحول إذًا إلى تراجع تدريجي في قدرة الدولة على العمل. وإضافة إلى ذلك، فإن ميل الطبقة السياسية نحو اليمين يُقفل الباب أمام أي نقاش حول فرض ضرائب إضافية على الفئات الأكثر ثراءً.
الاقتصاديون يحذّرون من خطر آخر: هذا “الترقيع المالي” يبعث برسالة كارثية إلى الأسواق. معدلات الفائدة على الدين الفرنسي بدأت أصلًا في الارتفاع، وكل عُشر نقطة مئوية إضافي يعني مليارات من الأعباء الجديدة. وإدارة الدولة بنظام “الاثني عشر جزءًا” تُعتبر في أعين المستثمرين علامة على نظام سياسي مشلول — ما لا يمكن إلا أن يزيد منسوب انعدام الثقة.
الأسواق المالية وعقوبة وكالات التصنيف
منذ أسابيع، يراقب المستثمرون الوضع الفرنسي بقلق متزايد. غياب حكومة مستقرة، والأهم عجز الدولة عن إقرار ميزانية موثوقة، يشعلان الأوساط المالية. ففي الاثنين الذي تلا استقالة سيباستيان لوكورنو، قفزت معدلات الفائدة على السندات الفرنسية لعشر سنوات إلى أكثر من 3,6٪ بعد أن كانت 3,2٪ قبل بضعة أسابيع فقط. وراء هذه الأرقام الصغيرة كرة ثلج ضخمة: كل ارتفاع بنصف نقطة مئوية يعني مليارات إضافية من الفوائد السنوية على دين عام تجاوز اليوم 3,2 تريليون يورو.
وكالات التصنيف لم تنتظر نهاية المواجهة البرلمانية لتطلق إنذاراتها. فمن المنتظر أن تصدر “موديز” و“ستاندرد آند بورز” تقييماتهما الجديدة قبل نهاية أكتوبر، وجميع المحللين يتوقعون خفضًا للتصنيف الائتماني لفرنسا. خطوة كهذه لن تكون رمزية فقط: فالدولة التي كانت تُعتبر حتى وقت قريب ملاذًا آمنًا نسبيًا داخل منطقة اليورو قد تُدرج ضمن فئة الدول ذات المخاطر المالية المرتفعة. الرسالة إلى الأسواق ستكون واضحة: الاضطراب السياسي في فرنسا لم يعد ضجيجًا مؤقتًا، بل صار عنصرًا بنيويًا في المشهد الاقتصادي.
هذه الإشارات المالية بدأت تؤثر فعليًا في الاقتصاد الحقيقي. البنوك باتت تتردّد في منح القروض العقارية طويلة الأمد — عشرين أو خمسًا وعشرين سنة — لأنها لم تعد تثق باستقرار الدولة نفسها. في المقابل، يميل الفرنسيون أكثر إلى الادخار: نسبة الادخار بلغت 19٪، وهي الأعلى في أوروبا، ما يعني انخفاضًا في الاستهلاك وبالتالي تباطؤًا في النمو. الاقتصاديون يتحدثون عن نحو 69 ألف إفلاس متوقّع هذا العام، وهو رقم غير مسبوق منذ أزمة 2008.
بهذا الشكل، يغذّي المناخ السياسي دائرةً من التدهور الذاتي: كلما طال الانسداد، ارتفعت كلفة الاقتراض، وتراجعت وتيرة النشاط، وتعمّق عزلة فرنسا داخل منطقة اليورو، في وقت تُظهر فيه إسبانيا وإيطاليا والبرتغال نموًا أقوى واستقرارًا سياسيًا أوضح وصورةً أفضل على الساحة الدولية.
التركيبات السياسية وسيناريوهات المخرج
أحدثت الاستقالة السريعة لسيباستيان لوكورنو زلزالًا سياسيًا غير مسبوق. فخلال سبعةٍ وعشرين يومًا فقط في “ماتينيون”، لم يُقدِّم مشروع ميزانية ولا تمكّن من تشكيل أغلبية برلمانية. رحيله أطلق سيلًا من المواقف يكشف بالفعل موازين القوى المقبلة.
في اليسار، استغل جان لوك ميلونشون الفرصة ليُعيد إلى الواجهة مطلب عزل إيمانويل ماكرون. فزعيم “فرنسا الأبية” يرى أن المأزق لا يتعلق فقط بعجز الرئيس عن إيجاد رئيس حكومة، بل بالرئاسة نفسها، العاجزة عن تحمّل نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2024. وفي مدونته وخطاباته المتكررة، يكرّر أن “العودة إلى الشعب هي المخرج الوحيد”، معتبرًا أن المؤسسة الرئاسية فقدت شرعيتها بالكامل.
على الطرف المقابل، اختار جوردان بارديلا نبرة أكثر هدوءًا. فمع استطلاعات تمنح حزبه الأغلبية المطلقة تقريبًا، أعلن استعداده لـ“مدّ اليد” إلى جزء من الجمهوريين لتشكيل ائتلاف حكومي. هذه المناورة تهدف إلى طمأنة “الناخبين” و”الدوائر الاقتصادية”، عبر إظهار “التجمّع الوطني” كقوة قادرة على التفاهم لا على المواجهة.
أما المعسكر الماكروني وبقاياه، فما يزال ضائعًا بلا خطة واضحة. الرئيس يتمسّك بالدستور ويحاول كسب الوقت، طالبًا من لوكورنو إعداد “منصّة عمل” رغم استقالته، ما يعزز صورة سلطة تنفيذية مشلولة، منشغلة بالمظاهر أكثر من إعادة بناء أغلبية فاعلة. الاشتراكيون يراقبون من بعيد: يقبلون تسويات ظرفية، لكنهم يرفضون دخول حكومة تطبّق سياسة مناقضة لبرنامجهم.
كل هذه التحركات تجري في مناخٍ شعبيّ معادٍ للرئيس. فوفق استطلاعات نُشرت منذ 6 أكتوبر، أغلبية واسعة من الفرنسيين ترى أن الوضع لا يمكن أن يستمر دون حلٍّ للبرلمان. الرأي العام يبدو مستعدًا للتحكيم عبر صناديق الاقتراع، حتى ولو أدى ذلك إلى صعود القوى المتطرفة. الاستطلاعات نفسها تُظهر أن رصيد الماكرونيين يتآكل لصالح التيارات التي تُقدّم نفسها كبدائل واضحة — “التجمّع الوطني” من جهة، و”الجبهة الشعبية الجديدة” من الجهة الأخرى.
في هذا السياق، تبرز عدة سيناريوهات:
*حلٌّ سريع للبرلمان يُعيد توزيع الأوراق قبل نهاية السنة.
*حكومة تقنية مؤقتة تستند إلى نظام “الاثني عشر جزءًا” لكسب الوقت.
أو، *في فرضيةٍ أقل احتمالًا لكن مطروحة في بعض الأوساط، أزمة دستورية مفتوحة تُحمِّل الرئاسة المسؤولية مباشرة.
ولا يضمن أيٌّ من هذه المسارات الاستقرار، لكنها جميعًا تُذكّر بأن الجمهورية الخامسة تعيش ربما أخطر لحظاتها منذ 1958. سيناريو آخر، يروَّج له في أروقة الإليزيه، يضع اسم الوزير السابق للاقتصاد بيار موسكوفيتشي كمرشح محتمل لرئاسة الحكومة. الرجل قريب من الأوساط الأوروبية ومقبول نسبيًا لدى الجناحين المتقابلين، وقد يشقّ الاصطفافات الحالية بما يسمح لماكرون بالبقاء في الحكم لبضعة أشهر إضافية — من دون أن يغيّر ذلك شيئًا في الأفق القاتم للدولة الفرنسية.
الاستقالة الخاطفة لسيباستيان لوكورنو ليست مجرّد فصلٍ جديدٍ في سلسلة تغييرات الحكومات، بل علامة على عجز السلطة التنفيذية عن الحكم فعليًا. من دون ميزانية، تجد فرنسا نفسها أمام فقدان ثقة الأسواق، خطر خفض التصنيف المالي، وتراجعٍ طويل أمام شركائها الأوروبيين. غير أن الأزمة في جوهرها سياسية: إنها تُظهر انهيار الماكرونية كقوة قادرة على بناء تحالفات دائمة وتآكل الشرعية الرئاسية.
في بلدٍ سقطت فيه ثلاث حكومات خلال عام واحد، لم يعد السؤال “من سيجلس في ماتينيون”، بل “من لا يزال قادرًا على رسم اتجاه جماعي؟”. والرأي العام، المرهق من الفوضى، يبدو مستعدًا للحسم في صناديق الاقتراع، حتى لو أوصل إلى السلطة قوى كان الإليزيه يسعى إلى إقصائها. هكذا تتقدّم فرنسا بخطى متردّدة نحو إعادة تركيبٍ عنيفة، حيث يغدو غياب الميزانية رمزًا لجمهورية تعمل بالافتراض… لا بالمشروع