نزار الجليدي يكتب: ترامب – بوتين: قمة على الجليد وأوروبا التي تتزحلق - صوت الضفتين

نزار الجليدي يكتب: ترامب – بوتين: قمة على الجليد وأوروبا التي تتزحلق

ترامب – بوتين: قمة على الجليد وأوروبا التي تتزحل

في القارة الأوروبية، الترقب والتوتر ملموسان. غدًا الجمعة، ستتجه الأنظار إلى أنكوراج في ألاسكا، حيث يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. اللقاء ينعقد على بعد آلاف الكيلومترات من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكنه يحمل في طياته احتمال إعادة رسم ملامح التوازن العالمي. القمة لم تبدأ بعد، لكنها تكشف بالفعل عن عجز أوروبا أمام مفاوضات ثنائية مغلقة بين واشنطن وموسكو.

على مدى ما يقارب ثلاثة أعوام، سعت دول الاتحاد الأوروبي لأن تثبت نفسها طرفًا لا يمكن تجاوزه في البحث عن مخرج للحرب الأوكرانية، لكن دون تحقيق أي إنجاز حقيقي. الأرقام تتحدث بوضوح: للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، تجاوزت قيمة المساعدات العسكرية التي قدمها الاتحاد الأوروبي نظيرتها الأمريكية. ومع ذلك، يرافق هذا التحول شعور بالمرارة؛ فأوروبا تدفع وتسلّح، لكنها مهددة بأن تبقى خارج دائرة صناعة القرار. سيناريو ألاسكا يزيد المخاوف — لقاء مغلق بين ترامب وبوتين قد يثمر عن تفاهم ثنائي، ثم يُطرح على بقية العالم، وأوروبا خصوصا، كأمر واقع.

لكن الاهتمام لا يقتصر على أوروبا وحدها. في بكين، يُراقَب المشهد بدقة، حيث تُقرأ لغة الجسد بقدر ما تُفكك التصريحات الرسمية. الصين، الشريك الاستراتيجي لروسيا، تدرك أن أي انفتاح علني أمريكي تجاه موسكو قد يعيد الإختلال في موازين القوى، وربما يربك حساباتها الدبلوماسية. وفي أنقرة، يترقب الرئيس رجب طيب أردوغان عن كثب؛ فالتقارب بين ترامب وبوتين قد يحد من مساحة المناورة التي استغلها منذ اندلاع النزاع، حين عرض دعمه التكتيكي على هذا الطرف أو ذاك وفق مصالحه الضيّقة. أما في دول الجنوب ، فالاهتمام منصب على ما إذا كانت نتائج قمة أنكوراج ستنعكس على أسعار الطاقة وحركة التجارة العالمية.

المخاطر التي تواجه أوروبا لا تتعلق فقط باحتمال فرض اتفاق عليها، بل تكمن أيضًا في سرعة تغيّر ميزان القوى على الأرض. فالتقدم الأخير الذي حققته القوات الروسية — وهو الأسرع منذ أشهر طويلة — يمنح موسكو أفضلية فورية. وفي أي مفاوضات، لمثل هذا الزخم العسكري وزن كبير. وإذا لم تتم معادلته سريعًا، عبر إمدادات إضافية من السلاح أو دعم سياسي واضح لكييف، فقد يرسخ خط جبهة جديد يتحول لاحقًا إلى أساس للتفاوض.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يدرك ضيق هامش الوقت، يدعو بالفعل إلى عقد اجتماع في أوروبا مباشرة بعد قمة أنكوراج، بمشاركة أوكرانيا وروسيا على حد سواء. لكن خلف هذه الدعوة يختبئ هاجس آخر: الخوف من أن تُضعف صورة أوروبا المنقسمة قدرتها على التفاوض. برلين، من جانبها، تتحفظ، خشية أن يكشف اجتماع متسرع عن شروخ داخلية بين دول الاتحاد، خصوصًا في ما يتعلق بالعقوبات والضمانات الأمنية لأوكرانيا. أما بولندا، فهي تراقب واشنطن أكثر من باريس، خشية أن ينتج عن القمة اتفاق لا يوفر الحماية الكافية للحدود الشرقية لحلف الناتو.

أما الأمم المتحدة، فتتهيأ للتعامل مع أي نتيجة. فإذا فتحت أنكوراج الباب أمام حوار موسع، قد تعود نيويورك لتكون مركز الثقل الدبلوماسي. لكن إذا فشلت القمة أو خرجت باتفاق جزئي، فقد يجد كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن نفسه في موقع المعلق على قرارات صيغت في أماكن أخرى، بما يعزز فكرة تهميش النظام متعدد الأطراف.

حسابات ترامب، كما تُرى من أوروبا، تبدو كمعادلة معقّدة بعناصر كثيرة غامضة، فهو يدرك أن سمعته كرجل صفقات تشكّل جزءًا من رصيده السياسي، لكنه يسير على حبل مشدود: أي إشارة إلى تنازل كبير لصالح بوتين قد تُكلّفه كثيرًا داخليًا، بينما تبنّي موقف متصلّب أكثر من اللازم سيبدو متناقضًا مع الصورة التي يريد إظهارها — صورة المفاوض البراغماتي القادر على “جلب السلام”. هذه المعضلة الداخلية تنعكس على طريقة تقييم الأوروبيين لحظوظهم في التأثير على نتائج القمة.

في أروقة المجلس الأوروبي الهادئة، بدأ بعض الدبلوماسيين يتداولون بالفعل سيناريوهين. الأول: أن تفضي قمة أنكوراج إلى إطار غامض، فضفاض بما يكفي لتمكين كل طرف من إعلان “انتصار دبلوماسي” أمام جمهوره. الثاني: نص، ولو بسيط، يكرّس عمليًا المكاسب الميدانية التي حققتها روسيا. وفي الحالتين، ستكون أوروبا مضطرة لتحديد موقفها بسرعة، إما بدعم المبادرة أو بالابتعاد عنها — وهو خيار قد يضعف أكثر تماسك الضفتين الأوروبية والأمريكية.

التوتر يزداد مع استمرار الإشارات المتناقضة من موسكو وواشنطن. الكرملين يؤكد رغبته في “التحدث”، لكنه يصر على وجوب احترام ما حققه من مكاسب. أما البيت الأبيض، فيعلن أنه يريد استكشاف “كل الخيارات”، مع الحفاظ على خطاب صارم بشأن “سيادة أوكرانيا”. وبين السطور، يقرأ الاستراتيجيون الأوروبيون حقيقة أبسط: كل طرف يختبر الآخر ويقيس الثمن الذي يمكن دفعه مقابل تسوية.

غدًا، في ألاسكا، لن تُحسم الأمور نهائيًا. لكن طريقة تبادل العبارات، وصياغة الجمل في البيانات، وحتى نبرة التصريحات، قد تكفي لتوجيه مسار الديناميكيات الإقليمية والدولية. بالنسبة لأوروبا، المسألة لم تعد معرفة ما سيتبادله ترامب وبوتين من كلمات، بل الاستعداد للرد بسرعة على أي تطورات — قبل أن تعيد القوى الكبرى رسم الخريطة من دونها.

الجبهة العسكرية… الميقاع الذي يضبط ترنيمة الدبلوماسية

على الأرض الأوكرانية، الخريطة لا تنتظر البيانات الرسمية. خلال الأسابيع الأخيرة، حققت روسيا مكاسب تكتيكية ملموسة، خصوصًا في بعض مناطق الشرق حيث تراجعت متانة الدفاعات الأوكرانية تحت ضغط نقص الذخيرة، وإرهاق القوات، والاستنزاف اليومي الذي تفرضه موسكو. تقديرات متداولة بين محللين غربيين تتحدث عن “استعادة مئات الكيلومترات المربعة” منذ بداية الصيف — أرقام يصعب التحقق منها، لكنها تكفي لتغيير الحسابات السياسية.

بالنسبة لكييف، حتى هذه الخسائر المحدودة لها أثر نفسي ثقيل؛ فهي تغذي المخاوف من أن المبادرة الاستراتيجية قد تنتقل نهائيًا إلى الجانب الروسي. أما لموسكو، فالأمر يشكل ورقة ضغط قبيل القمة: فلاديمير بوتين يمكنه الجلوس في أنكوراج باعتباره الطرف الذي يحقق تقدمًا ميدانيًا ولا يرى سببًا للتنازل عن مواقعه. هذا التفاوت يضع الحلفاء الأوروبيين أمام معضلة واضحة: هل يجب تسريع وتيرة تسليم الأسلحة فورًا لمحاولة قلب موازين القوى، مع ما يحمله ذلك من خطر التصعيد؟ أم القبول بأن الخطوط الحالية قد تتحول إلى قاعدة غير معلنة لأي مفاوضات مقبلة؟ خلف هذا السؤال، تقف معركة أوسع تتعلق ببنية الأمن الأوروبي نفسها: أي تراجع طويل الأمد لأوكرانيا سيقوّض مصداقية التزامات الدفاع المشترك، ويعيد رسم مناطق النفوذ شرق القارة.

العسكريون يرون في قمة أنكوراج نقطة انعطاف محتملة. فإذا خرج ترامب من اللقاء بنية معلنة لتقليص الدعم الأمريكي — حتى بشكل تدريجي — فإن عبء الحرب سيثقل أكثر على كاهل الأوروبيين. الأرقام المنشورة مؤخرًا تُظهر بالفعل أن الإنفاق الأوروبي تجاوز نظيره الأمريكي، لكن القدرات الصناعية — من إنتاج الذخيرة وصيانة الأنظمة المرسلة، إلى تدريب القوات الأوكرانية — ما زالت تعتمد بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة. وعلى العكس، فإن إشارة قوية من واشنطن باستمرار الدعم، ولو في مجالات تسليح محددة، قد ترفع معنويات الأوروبيين وتمنح أوكرانيا قدرة أكبر على الصمود في المدى المتوسط. لكن هذا السيناريو يفترض أن يقبل ترامب بالانسجام مع استراتيجية مشتركة، وهو أمر غير مضمون؛ فالرجل يفضل التفاهمات الثنائية والمرونة التكتيكية، حتى لو أضفى ذلك ضبابية على خطه السياسي العام.

الميدان يزداد تقلبًا بفعل فتح جبهات فرعية: ضربات أوكرانية تستهدف مواقع لوجستية داخل الأراضي الروسية، اشتداد المعارك في محيط البحر الأسود، وتزايد الضغط على خطوط الإمداد — كلها عوامل ترفع احتمال وقوع حادث كبير قد يعرقل أي جدول دبلوماسي.

في بروكسل وواشنطن، يدرك صانعو القرار أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة: فإذا نجحت القوات الأوكرانية في تثبيت الخطوط أو استعادة مواقع استراتيجية، ستستعيد بعض وزنها التفاوضي. أما إذا فشلت، فقد تمثل قمة أنكوراج بداية مرحلة يعاد فيها توزيع الأوراق رسميّا لصالح موسكو.

بالنسبة للعواصم الأوروبية، خيارات المناورة تتلخص في ثلاثة مسارات: تسريع الدعم العسكري، تشديد الضغط الاقتصادي على روسيا، وقبل كل شيء الحفاظ على وحدة الصف السياسي الداخلي. وعلى هذه النقطة الأخيرة، الخطر حقيقي؛ فكل تقدم روسي يغذي، في بعض العواصم، خطابًا يدعو إلى “تجميد” الصراع لتجنب الأسوأ. وإذا تعزز هذا التوجه، فقد يمنح بوتين انتصاره الاستراتيجي الأكبر: شق صف الغرب قبل أن يبدأ التفاوض. أنكوراج، في هذا السياق، ليست مجرد قمة بين رئيسين، بل جلسة تحكيم غير معلنة حيث تحدد الجبهة العسكرية القيمة السياسية لكل تنازل ممكن. والنتائج التي ستخرج من ألاسكا — سواء كانت مكتوبة أو إيحائية — سيكون لها أثر مباشر على الطريقة التي ستتكلم بها البنادق… أو تصمت… في الأشهر المقبلة.

ما بعد أنكوراج: السيناريوهات والخطوط الحمراء

حين يلتقي ترامب وبوتين في ألاسكا، لن تتركز الأنظار فقط على المصافحة أو الابتسامة أمام الكاميرات. “المجتمع الدولي” سيبحث عن إشارات أدق: تغير في نبرة الخطاب، انفتاح خفي، أو على العكس، تشدد محسوب. أما أوروبا، فستواجه معادلة أكثر تعقيدًا من الولايات المتحدة أو روسيا: حماية أمنها القومي، الدفاع عن أوكرانيا، ومنع تحول القارة إلى مجرد ساحة اختبار لطموحات الآخرين.

ثلاثة سيناريوهات تتداولها الأوساط الدبلوماسية. الأول: جمود كامل، حيث يلمّح ترامب إلى أنه لا ينوي تقليص الدعم العسكري في الوقت الراهن، من دون التزام واضح. هذا الموقف يمنح بوتين الوقت لاختبار تماسك الموقف الأوروبي وإطالة أمد الحرب لصالحه.

الثاني: اتفاق مبدئي على وقف إطلاق النار، تقوده واشنطن وموسكو، مع النية الضمنية لفرض تسوية إقليمية على كييف. في هذا السيناريو، سيكون التحدي الأوروبي مزدوجًا: الحفاظ على الدعم السياسي لأوكرانيا المحبطة، ومنع تحول هذه الصيغة إلى سابقة في النزاعات المستقبلية.

الثالث: فشل كامل للقمة، يتبعه تصعيد عسكري على الأرض. بالنسبة لأوكرانيا، سيكون ذلك بمثابة فرصة ذهبية لآلة الحرب الروسية. أما أوروبا، فستجد نفسها مضطرة فورًا إلى تبني نمط “اقتصاد الحرب” — زيادة الإنتاج العسكري (والمشتريات)، تمديد الجهود المالية، وقبل كل شيء، التحدث بصوت واحد.

في الخلفية، تراقب الصين وإيران وتركيا وعدة قوى متوسطة الحجم قمة أنكوراج باعتبارها اختبارًا عمليًا: قدرة الولايات المتحدة وروسيا على التحدث ستحدد كيف ستعيد هذه الدول ضبط طموحاتها. فبكين، مثلًا، قد ترى في أي تفاهم غير معلن بين واشنطن وموسكو فرصة لترسيخ نفوذها في جنوب آسيا، فيما ستسعى أنقرة إلى استغلال أي ثغرة لتوسيع دورها في سوريا والبحر الأسود والقوقاز. حتى الآن، لا تتوقع أي من العواصم الأوروبية قرارات مصيريّة. لكن الجميع يدرك أن إشارة واحدة، حتى لو كانت ضعيفة، قد تعيد رسم مسار الأشهر المقبلة. فإذا خرجت القمة بورقة طريق، ولو غامضة، سيكون على الاتحاد الأوروبي أن يختار بين مرافقة مسار يُدار من الخارج أو فرض مقعد له على الطاولة. أما إذا انتهى اللقاء بصمت ثقيل، فستواصل الحرب كتابة جدولها الزمني بنفسها — وهناك، أكثر من غرف التفاوض، سيتحدد المستقبل.

في كل الأحوال، تخرج أوروبا من هذه المرحلة بيقين واحد: لم يعد بإمكانها الاكتفاء برد الفعل على قرارات تُتخذ في أماكن أخرى. حجم انخراطها العسكري والمالي والسياسي يجعلها، بحكم الأمر الواقع، لاعبًا أساسيًا. ويبقى السؤال: هل ستتصرف على هذا الأساس؟ أنكوراج قد لا يحسم الحرب، لكنه سيكشف الكثير عن قدرة القارة العجوز على أن تكف عن لعب دور المتفرج القلق في مباراة تدور على أرضها، وعلى أعتابها، وقد تؤثر دون شك على نفوذها ومستقبلها.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French