هل أصبحت البنوك التجارية عدوّا للتونسيين؟!

في تونس التي أنهكها التضخّم، وتراجع الاستثمار، وانسحاب الدولة من أدوارها الاجتماعية، يبرز قطاع واحد كاستثناء صادم: البنوك التجارية. فرغم كل المؤشرات الاقتصادية القاتمة، تحقق هذه المؤسسات أرباحًا فاحشة. تناقضٌ ظاهري يخفي منطقًا سياسيًا أعمق بكثير.
بحسب آخر الأرقام الرسمية الصادرة عن بورصة تونس، فإن صافي الأرباح الإجمالي للشركات المدرجة بها قد ارتفع بنسبة 13.3٪ سنة 2024، ليصل إلى أكثر من 3 مليارات دينار. لكن هذا النمو غير متوازن: حوالي 55٪ من هذا الرقم تحققه البنوك وحدها، بأرباح صافية تفوق 1.7 مليار دينار، بزيادة نسبتها 8.4٪. في مقدمة البنوك الأكثر ربحية: الشركة التونسية للبنك (STB) بنسبة نمو مذهلة بلغت 73٪، يليها البنك الوطني الفلاحي (BNA) بـ18.8٪، ثم بنك تونس العربي الدولي (BIAT) بـ17.5٪. في اقتصاد يعيش حالة ركود، ومع انهيار القدرة الشرائية وتراجع الاستثمار الإنتاجي، تبدو هذه الأرقام غير منطقية إطلاقًا. فكيف تنجح البنوك التونسية في الازدهار بينما تغرق البلاد في الأزمة؟
حتى وكالات التصنيف نفسها أقرت بهذا التناقض. ففي مذكرة صادرة بتاريخ 11 جويلية، اعترفت وكالة فيتش (Fitch Ratings) بأن البنوك التونسية تحقق ربحية قياسية رغم تدهور السياق الاقتصادي العام. هذه الربحية تُعزى، حسبها، إلى “صمود هامش الوساطة المالية”، و”ضبط التكوينات الاحترازية”، وتركيز المحافظ على عملاء حكوميين أو شبه حكوميين. بمعنى أوضح: البنوك لا تجني أرباحها من دعم الاقتصاد الحقيقي، بل من ترسيخ موقعها داخل اقتصاد مغلق ومحمي ومتجه نحو التمركز المالي.
لكن جوهر هذه الربحية قائمٌ على منطق الريع، بشكل واضح ومفضوح. فمعدلات الفائدة على القروض في تونس، سواء للأفراد أو للمؤسسات، من بين الأعلى في المنطقة، في حين تظل الفوائد على الادخار متدنية ومحبطة. هذا الفارق (ما يُعرف بهامش الوساطة) يسمح للبنوك بجني أرباح ضخمة دون تحمّل مخاطر تذكر. وتدعم هذه الاستراتيجية بضعف انكشافها على القطاع الخاص: إذ تفضّل البنوك إقراض الدولة أو المؤسسات العمومية الكبرى، ما يوفّر لها أمانًا نسبيًا… على حساب الاقتصاد الحقيقي. فبينما تتقاسم البنوك الأرباح — 1.6 مليار دينار تم توزيعها كأرباح سنة 2025، بزيادة 13.4٪ مقارنة بالعام السابق — تنهار البنية الإنتاجية. التمويل الموجه للمؤسسات الصغرى والمتوسطة لا يزال هامشيًا، والوصول إلى التمويل بالنسبة للشباب شبه معدوم!
أما المواطن النشيط، فمُحاصر بثلاثية قاتلة: قروض نادرة، معدلات فائدة متصاعدة، وانسحاب متزايد للدولة.
اللافت في هذا المشهد ليس أداء البنوك فقط، بل صمت المؤسسات الوصية. لا نقاشات برلمانية تُذكر، لا مساءلة وزارية، لا تحذير من البنك المركزي… كأنّ النظام المالي يعمل بمعزل تام عن انهيار الدولة.
وراء البريق، التواطؤ: البنك المركزي، تشريعات صورية وانفلات مضاربي
أمام التراكم غير المسبوق لأرباح البنوك، تحركت الدولة التونسية أخيرًا — وإن متأخرة — لفرض بعض القيود في عام 2025 للحد من جشع قطاع بات يتمتع بنفوذ سياسي واضح. ورغم أن بعض الإجراءات الرمزية كبحَت قليلاً من الاندفاع المضاربي، فإن منطق القطاع لم يتغير. البنوك واصلت اللعب على حبلين: تحقيق الأرباح السريعة، والسيطرة على القرار المؤسساتي. وبينما يختنق الاقتصاد، لا أحد يُحاسب هذه المؤسسات على دورها في الأزمة.
بحسب المعهد الوطني للإحصاء (INS)، سجّل الميزان التجاري خلال النصف الأول من 2025 عجزًا تجاوز مليار دينار، بينما بلغ معدّل التضخم أكثر من 5.4٪ — هذا والمؤسسة نفسها تحاول تلطيف الصورة.
تحت ضغط الأزمة الاجتماعية والتضخم المنفلت، اضطرت السلطات إلى تغيير قواعد اللعبة البنكية بشكل عاجل. فتم التصويت مطلع 2025 على قوانين تُجبر البنوك الكبرى على المساهمة في “الجهد الوطني” إن صح التعبير. من بين أبرز الإجراءات: تخفيض بـ50٪ في نسب الفائدة على بعض القروض ذات الأقساط الثابتة، إلزام البنوك بتخصيص 8٪ من أرباحها لسنة 2024 لتمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة، ورفع الضريبة على أرباح البنوك إلى 40٪. حسب فيتش، هذه الإجراءات قد تؤدي إلى انخفاض في الأرباح الصافية لِعشر أكبر بنوك بنحو 11 إلى 14٪، أي ما يعادل 170 مليون دينار. لكن يبقى السؤال: هل طُبقت هذه القوانين فعلًا؟
في كل الحالات، هذا التراجع ليس إلا تعديلًا بسيطًا. فقد سارعت البنوك بالرد: توقفت عن منح القروض طويلة الأجل، خاصة في قطاع السكن. وبذريعة أن هذه القروض أصبحت غير مجدية مع القوانين الجديدة، علّقت عدة مؤسسات بنكية منذ أبريل 2025 كل التمويلات التي تتجاوز 15 عامًا، مما أغلق أبواب السكن في وجه عشرات الآلاف من التونسيين. وبدلاً من لعب دور المحرك الاقتصادي، انغلقت البنوك على نفسها، وفرضت ضغوطًا مضادة على الدولة.
أما البنك المركزي، فاختار الصمت: لا إنذار، لا تحذير، لا عقوبة ضد البنوك التي تتهرب من القوانين أو تواصل المضاربة في قطاعات حساسة. النصوص التي تفرض تمويلًا إلزاميًا للقطاع الخاص لا تُطبّق، ولا أحد يُحاسب. في الوقت ذاته، تواصل التكتلات البنكية، عبر فروعها المدرجة في البورصة، الاستثمار في العقارات، والسلع الأساسية، والموارد الاستراتيجية — في خرق صريح لقانون 48 المؤرخ في 11 جويلية 2016 (وخاصة الفصل 47 وما بعده) الذي يفرض فصلًا بين النشاط المصرفي والأنشطة التجارية.
هذا الصمت الرسمي يكشف الحقيقة: البنوك التونسية أصبحت فاعلاً سياسيًا. قوّتها المالية تمنحها شبه حصانة، ونفوذها على دوائر القرار يعطل كل محاولة إصلاح. حتى صندوق النقد الدولي، الذي اعتاد فرض شروط على مساعداته، يبدو أنه استسلم تمامًا لمنطق البنوك المحلية دون فرض أي إصلاح مقابل ذلك.
حين يفترض بالدولة رسم خطوط حمراء، تكتفي بالتفاوض في المناطق الرمادية. وفي هذه الفجوات، تلتف البنوك على القانون، أو تتجاهله كليًا. تحول البنك المركزي إلى غرفة تسجيل، ووزارة المالية إلى مدير صندوق بسيط. كل ذلك في وقت تستمر فيه البنوك في جني الأرباح، وتوزيع الأرباح (جزء كبير منها يُحوّل إلى الخارج)، وإعادة توجيه استثماراتها نحو قطاعات مربحة (مضاربات، عملات أجنبية، قروض سيادية)، لكنها عقيمة اقتصادياً.
الدولة قادرة… لكنها لا تريد: بين كسر النموذج البنكي أو الخضوع له
تونس لم تعد ديمقراطية برلمانية متشرذمة، ولا أرستقراطية مالية مغلقة. هي جمهورية مركزية، تملك أدوات ضغط حقيقية، خاصة في ظل قانون حالة الطوارئ. ومع ذلك، تقف الدولة عاجزة أمام تجاوزات قطاع مصرفي مفترس. بين الخوف السياسي، والجمود البيروقراطي، وغياب الوعي الشعبي، يطفو سؤال مصيري: كيف نقطع مع هذا النموذج البنكي؟ حتى أقوى الجمهوريّات باتت تنزع لتنظيم قطاعها المصرفي. بل إن بعض الدول ذات النظام المصرفي المقارن — كأمريكا، وإيطاليا، والبرازيل — ذهبت أبعد من ذلك: قيدت بنوكها بشدة داخليًا، ودفعتها نحو ممارسة نزعتها الإفتراسية في البلدان الأجنبية.
من النقاط المسكوت عنها في تونس: التأثير البنيوي للبنوك على السلطة التنفيذية وخصوصا سلطة الإشراف. رغم ضعفها في الابتكار، وتخوفها من المخاطر، وتركيزها على المضاربة، تُعامل هذه المؤسسات بتسامح ممنهج. لماذا؟ لأنها تُعتبر آخر معاقل “الاستقرار المالي” في اقتصاد متعثر. ولأنها، أكثر فأكثر، مدعومة من تكتلات دولية — فرنسية ومغربية خصوصًا — لها أذرع دبلوماسية فعالة وهادئة. لكن هذا الاستقرار واهم. فاقتصاد تُزهر فيه البنوك بينما ينهار باقي القطاعات، هو اقتصاد مختل. وهذا الاختلال سياسي، لا تقني.
ذلك أن الدولة التونسية ما تزال تملك أدوات لإجبار البنوك على استعادة دورها الاجتماعي — من البنك المركزي، إلى اللجنة التونسية للتحاليل المالية. لكن، كما كشفت تسريبات اجتماع CTAF–GAFI نهاية ماي الماضي، المؤسستان في صراع، ما لا يبرر بأي حال من الأحوال الصمت القانوني. فالقانون التونسي، من حيث المبدأ، يُلزم البنوك بتخصيص نسبة من أرباحها لتمويل الاقتصاد الإنتاجي. هذه النسبة تُحددها قواعد البنك المركزي، لكنها لا تُطبق، دون أي عواقب تذكر. لا تدقيق جدي، لا عقوبات، لا سحب رخص.
ثم هناك نموذج القدوة: البنوك الأكثر ربحًا هي التي تمتلك تكتلات مضارِبة (holdings)، تعمل في البورصة، والعقارات، والسلع. ما يتيح لها التملص من دورها الائتماني، وتوظيف أموالها في أصول منخفضة المخاطر وعالية الربحية. وهذا تضارب مصالح صارخ يخالف قانون الفصل بين الأنشطة البنكية والتجارية. ومع ذلك، لا أحد يتدخل.
وأخيرًا، الإرادة السياسية: فلا إصلاح دون إشارة من القمة. يمكن للبنك المركزي فرض تمويل إلزامي للمؤسسات الصغرى، تحديد سقف هوامش الأرباح، حظر أنشطة معينة. يمكن لوزارة المالية تعليق توزيع الأرباح في أوقات الأزمات، أو ربط الامتيازات الضريبية بدعم الاقتصاد الحقيقي. لكن لا شيء من ذلك يحصل، لأن لا أحد يريد زعزعة ما تبقى من “النظام المالي”.
لكن هذه المهادنة خطيرة. إنها تواطؤ صامت، وتغذي شعورًا بالظلم لدى المواطن. بينما تجني البنوك المليارات، يواجه التونسي ارتفاع الأسعار، استحالة الحصول على القروض، وجمود الرواتب (الدولة أضطرت للتدخل مرارًا لصرف أجور القطاع العام). الشعور بالظلم الاقتصادي ينتشر… ويتسيّس… وإن استمر الحال لن يبقى سوى عامل الزمن قبل أن ينفجر.
فهل آن أوان القطع مع هذا النموذج البنكي؟ نعم، أكيد. لا عبر القطيعة العنيفة أو الشعبوية، بل بالمنهجية: إعادة البنوك إلى خدمة الاقتصاد، لا العكس. وهذا يبدأ بالشفافية، وردع التجاوزات، وتحفيز الاستثمار الإنتاجي، والفصل بين الأنشطة المصرفية والمضاربة، وقبل كل شيء: استعادة الدولة لدورها الرقابي وتطبيق القانون !
الوطن قد يتجاوز الإفلاس، لكنه لا يتجاوز الظلم المقنن. وتونس لا يمكن أن تُحكم عبر موازنات البنوك. فالمشكلة ليست أن هذه البنوك قوية جدًا، بل أن لا أحد يحاول تقييدها فعلا.