تونس بين تصدير المواد الخام والحاجة إلى التصنيع: متى تتغير المعادلة؟
بقلم: محمد أمين الجربي

مقدمة: ثروات تُباع بثمن بخس
تقف تونس اليوم على مفترق طرق اقتصادي خطير ومصيري. بلد يمتلك ثروات طبيعية متنوعة – من فسفاط يُعتبر من أجود الأنواع عالمياً، إلى زيت زيتون يُصنف ضمن الأفضل على مستوى البحر المتوسط، مروراً باحتياطات نفطية محدودة لكنها موجودة – ومع ذلك، تُصدَّر هذه الثروات في شكلها الخام، كأنما نحن في القرن التاسع عشر وليس في عصر القيمة المضافة والاقتصاد المعرفي. هذا النموذج الاقتصادي المتخلف لا يعكس فقط غياب الرؤية، بل يكشف عن استمرارية منطق الاستعمار الاقتصادي الذي يُبقي بلداناً مثل تونس في دور “المزوّد” للمواد الخام، بينما تحتكر الدول الصناعية دور “المُصنّع” الذي يجني القيمة المضافة الحقيقية.
I. زيت الزيتون: ذهب تونس السائل الذي يُباع بالجملة
تونس، هذا البلد الصغير، تُعتبر من أكبر منتجي زيت الزيتون عالمياً، حيث تحتل المرتبة الثانية أو الثالثة في التصدير حسب المواسم. لكن المأساة الحقيقية تكمن في أما يقارب 88.1% من هذا الزيت يُصدَّر “سائباً” (حسب أرقام 2025) – أي في صهاريج ضخمة – إلى إيطاليا وإسبانيا، حيث يُعاد تعبئته وتسويقه تحت علامات تجارية أوروبية بأسعار تفوق سعر التصدير التونسي بـ 300% إلى 500%!
هذا النموذج ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة لعدة عوامل متشابكة:
1.
غياب استراتيجية وطنية للعلامات التجارية: رغم مرور عقود على استقلال تونس، لم تنجح الدولة في بناء علامات تجارية وطنية قوية لزيت الزيتون قادرة على المنافسة عالمياً.
2.
هيمنة لوبي التصدير السائب: ورغم صعوبة تحديد أسماء الفاعلين بشكل دقيق، إلا أن المؤشرات الاقتصادية وسلوكيات السوق تشير إلى وجود مجموعة من كبار المصدرين الذين يستفيدون من هذا النظام القائم على التصدير السائب، ويقاومون أي محاولة لتغييره نحو التعبئة والتصنيع المحلي، مستغلين نفوذهم السياسي والاقتصادي للحفاظ على امتيازاتهم.
3.
ضعف الاستثمار في التعبئة والتسويق: تكلفة إنشاء خطوط تعبئة حديثة ومختبرات جودة وحملات تسويقية عالمية تتطلب استثمارات ضخمة، تفتقر إليها الشركات التونسية المتوسطة والصغيرة.
4.
الحاجة إلى السيولة السريعة: المزارعون والمصدرون يفضلون البيع السريع للحصول على سيولة مالية فورية، بدلاً من انتظار عوائد أعلى على المدى المتوسط والطويل.
النتيجة؟ تونس تخسر سنوياً مئات الملايين من الدولارات من القيمة المضافة التي كان يمكن أن تبقى داخل الاقتصاد الوطني، وتخسر آلاف فرص العمل التي كان يمكن أن توفرها صناعة تعبئة وتسويق متطورة.
II. الفسفاط: من ثروة وطنية إلى عبء اجتماعي
الفسفاط، هذا “الذهب الأبيض” الذي تمتلك تونس منه احتياطيات هائلة في الحوض المنجمي، تحوّل من نعمة إلى نقمة. قبل 2011، كانت تونس من أكبر مصدّري الفسفاط والأسمدة المشتقة منه عالمياً. اليوم، ورغم بعض التحسن الطفيف، لا يزال الإنتاج بعيداً جداً عن مستويات ما قبل 2011 (التي كانت تقارب 8 ملايين طن سنوياً)، حيث بلغ الإنتاج حوالي 3.03 إلى 3.28 مليون طن فقط في عام 2024، مع هدف طموح للوصول إلى 5 ملايين طن في 2025. هذا الانخفاض الدراماتيكي أدى إلى تراجع القدرة التصنيعية وجعل شركة فسفاط قفصة تعاني من أزمات مالية متتالية.
المفارقة المؤلمة أن تونس، التي كانت رائدة في تصنيع الأسمدة الفوسفاتية، أصبحت اليوم تصدر كميات متزايدة من الفسفاط الخام، بينما تستورد الأسمدة المصنعة! هذا التراجع له أسباب عميقة:
1.
الاحتجاجات الاجتماعية المستمرة: منذ 2011، تحوّل الحوض المنجمي إلى بؤرة احتجاجات متكررة، أدت إلى توقف الإنتاج لفترات طويلة.
2.
تقادم البنية التحتية: معدات استخراج ومعالجة قديمة، وخطوط سكك حديدية متهالكة، وموانئ غير مجهزة بالشكل الكافي.
3.
غياب استثمارات جديدة: الشركات العالمية تتردد في الاستثمار في قطاع يعاني من اضطرابات اجتماعية مستمرة.
4.
سوء الإدارة والفساد: تعيينات على أساس الولاءات السياسية وليس الكفاءة، وصفقات مشبوهة، وغياب الشفافية.
النتيجة كارثية: بلد يمتلك ثروة طبيعية استراتيجية يعجز عن استغلالها بالشكل الأمثل، ويفقد مكانته في السوق العالمية لصالح منافسين مثل المغرب والأردن وروسيا.
III. النفط: قصة أخرى من الفرص الضائعة
رغم أن تونس ليست من الدول النفطية الكبرى، إلا أنها تمتلك احتياطيات متواضعة من النفط والغاز (مع إنتاج يومي متدهور بلغ حوالي 27.6 إلى 28.8 ألف برميل فقط في بداية 2025). المشكلة الأساسية هنا تكمن في ضعف القدرة التكريرية المحلية. مصفاة بنزرت (الشركة التونسية لصناعات التكرير – STIR)، وهي الوحيدة في البلاد، تعمل بطاقة اسمية تبلغ حوالي 34 ألف برميل يومياً، وهي طاقة غير كافية لتلبية الطلب المحلي المتزايد، بالإضافة إلى تقادم تجهيزاتها، مما يجبر تونس على:
1.
تصدير جزء من نفطها الخام: بدلاً من تكريره محلياً والاستفادة من القيمة المضافة.
2.
استيراد المشتقات النفطية: لتلبية الطلب المحلي المتزايد.
3.
الاعتماد على دعم حكومي مكلف: لتثبيت أسعار المحروقات، مما يثقل كاهل الميزانية العامة.
هذا الوضع يعكس غياب استراتيجية طاقية واضحة، وضعف الاستثمار في البنية التحتية الأساسية، وهيمنة منطق الحلول قصيرة المدى على حساب التخطيط الاستراتيجي.
IV. لماذا تعجز تونس عن التصنيع؟ الأسباب العميقة وراء الفشل
عجز تونس عن الانتقال من تصدير المواد الخام إلى تصنيعها محلياً ليس مجرد مشكلة فنية أو مالية، بل هو نتيجة لعوامل هيكلية عميقة:
1.
النموذج التنموي المتهالك: منذ الاستقلال، اعتمدت تونس نموذجاً تنموياً قائماً على اليد العاملة الرخيصة والمزايا التفضيلية، وليس على الابتكار والقيمة المضافة العالية.
2.
الاستثمار الأجنبي المشروط: الشركات متعددة الجنسيات تستثمر في تونس بشروط تضمن بقاءها مجرد محطة إنتاج منخفضة التكلفة، وليس مركزاً للابتكار والتطوير.
3.
ضعف منظومة التمويل: البنوك التونسية تفضل تمويل الاستهلاك والعقارات على حساب المشاريع الصناعية طويلة المدى.
4.
البيروقراطية القاتلة: إجراءات إدارية معقدة، وتراخيص لا تنتهي، وفساد مستشرٍ، كلها عوامل تقتل أي مبادرة صناعية جادة.
5.
غياب الرؤية السياسية: تعاقب الحكومات دون استراتيجية صناعية واضحة ومستدامة، والانشغال بالأزمات اليومية على حساب التخطيط طويل المدى.
6.
ضعف البحث والتطوير: الفجوة بين الجامعات والصناعة، وضعف الإنفاق على البحث العلمي (أقل من 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي).
7.
دور القطاع الخاص المحلي بين الريع والمبادرة: لا يمكن إلقاء اللوم كاملاً على الدولة أو العوامل الخارجية. فالقطاع الخاص المحلي يتحمل جزءاً من المسؤولية. فبينما تستفيد بعض النخب الاقتصادية ورجال الأعمال من استمرار النموذج الريعي القائم على الاستيراد والتصدير السهل للمواد الخام، وتعمل أحياناً على عرقلة أي إصلاح يهدد مصالحها، هناك أيضاً مبادرات لشركات تونسية حاولت الاستثمار في التصنيع والقيمة المضافة، لكنها غالباً ما تصطدم بنفس المعوقات البيروقراطية والتمويلية والمنافسة غير المتكافئة، مما يحد من قدرتها على إحداث تغيير حقيقي في النموذج الاقتصادي.
8.
إغفال التكاليف البيئية: غالباً ما يتم تجاهل البعد البيئي في النقاش حول التصنيع. فالصناعات التحويلية، خاصة في قطاع الفسفاط، لها تكاليف بيئية باهظة (مثل التلوث البحري والهوائي في قابس والمناطق المجاورة). كما أن التوسع في الزراعات الموجهة للتصدير (مثل الزيتون) يضع ضغوطاً هائلة على الموارد المائية الشحيحة أصلاً في البلاد. أي استراتيجية تصنيع مستقبلية يجب أن تدمج بقوة مبادئ الاستدامة البيئية لتجنب خلق مشاكل جديدة أكثر تعقيداً.
V. الحلول الممكنة: هل يمكن كسر الحلقة المفرغة؟ (مع ضرورة تحديد الأولويات ومواجهة تحديات التمويل)
رغم قتامة الصورة، وتعدد الحلول المقترحة، إلا أن تحدي التمويل يظل العقبة الأكبر في ظل أزمة المالية العمومية التي تمر بها تونس. إن تطبيق كل هذه الحلول دفعة واحدة هو أمر شبه مستحيل. لذلك، لا بد من وضع خارطة طريق واضحة تحدد الأولويات بناءً على معايير دقيقة مثل الأثر الاقتصادي والاجتماعي، وسرعة التنفيذ، وجدوى التمويل. قد تتطلب بعض الحلول (مثل تطوير البنية التحتية أو إصلاح منظومة التمويل) استثمارات ضخمة، بينما يمكن البدء بأخرى ذات تكلفة أقل نسبياً (مثل تبسيط الإجراءات أو تطوير العلامات التجارية). إن إيجاد آليات تمويل مبتكرة، أو توجيه الاستثمار الأجنبي نحو هذه القطاعات بشكل مدروس، يصبح أمراً حيوياً لكسر هذه الحلقة المفرغة. وفيما يلي بعض المسارات الممكنة التي تحتاج إلى ترتيب حسب الأولوية:
1.
استراتيجية صناعية وطنية واضحة: تحديد القطاعات ذات الأولوية (مثل الصناعات الغذائية، الكيميائية، والميكانيكية) ووضع خطة عمل واقعية على مدى 10-15 سنة.
2.
إصلاح منظومة التمويل: إنشاء صناديق استثمار متخصصة في تمويل مشاريع التحويل الصناعي، وتقديم حوافز ضريبية للاستثمار في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
3.
تطوير البنية التحتية اللوجستية: تحديث شبكة النقل (الطرقات، السكك الحديدية، الموانئ) لتسهيل حركة المواد الخام والمنتجات المصنعة.
4.
الاستثمار في رأس المال البشري: إصلاح منظومة التعليم والتكوين المهني لتوفير الكفاءات اللازمة للصناعات التحويلية.
5.
تبسيط الإجراءات الإدارية: إنشاء مسار سريع للمشاريع الصناعية الاستراتيجية، وتقليص عدد التراخيص المطلوبة.
6.
إعادة التفاوض على بعض بنود اتفاقيات التبادل الحر: لحماية الصناعات الناشئة وإعطائها الوقت اللازم للتطور.
7.
تطوير العلامات التجارية الوطنية: دعم حملات ترويج المنتجات التونسية في الأسواق العالمية، وتحسين صورة “صنع في تونس”.
VI. خاتمة: معركة المستقبل
تصدير المواد الخام ليس قدراً محتوماً على تونس، بل هو نتيجة لخيارات سياسية واقتصادية يمكن تغييرها. المعركة الحقيقية اليوم هي معركة الانتقال من اقتصاد ريعي تقليدي إلى اقتصاد إنتاجي حديث، قادر على خلق القيمة المضافة وتوفير فرص العمل اللائق.
هذا التحول لن يكون سهلاً أو سريعاً، لكنه ضروري لبناء اقتصاد مستدام وعادل. البديل هو الاستمرار في نموذج “المستعمرة الاقتصادية” التي تبيع مواردها بأبخس الأثمان، وتشتري المنتجات المصنعة بأغلى الأسعار، في دورة لا تنتهي من التبعية والفقر.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل تمتلك النخب السياسية والاقتصادية التونسية الرؤية والإرادة اللازمتين لإحداث هذا التغيير الجذري؟ أم أن مصالحها مرتبطة باستمرار الوضع الراهن؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل الاقتصاد التونسي للعقود القادمة.