خدعة "دعم الانتقال الديمقراطي" و الاموال المشبوهة... - صوت الضفتين

خدعة “دعم الانتقال الديمقراطي” و الاموال المشبوهة…

محمد امين الجربي

في تلك اللحظات الفارقة من تاريخ تونس، حين ارتجفت الأرض تحت أقدام شعب هتف ملء حناجره: “شغل، حرية، كرامة وطنية”، توهجت الآمال كفجر جديد، وانتفضت الجموع، واعتصمت شبيبة الوطن في ساحة القصبة، لا تبتغي سوى استكمال أهداف الثورة وقطع دابر رموز النظام البائد ومساعيهم الخبيثة للعودة من نوافذ التسويات. لكن، في الوقت الذي كان فيه مناضلون شرفاء يحفرون بأظافرهم في صخر الواقع المرير، كان آخرون، وبكل برودة دم، قد حسموا أمرهم واختاروا الاصطفاف خلف جدار المال والنفوذ وشبكات المصالح الخارجية.

منذ الوهلة الأولى لارتعاشات التغيير، تحركت أيادٍ خفية، قوى إقليمية ودولية، بخطط مدروسة وبدهاء يُحسدون عليه، لإجهاض أي تحول جذري حقيقي من شأنه أن يعيد رسم موازين القوى ويؤسس لسيادة وطنية كاملة في تونس. تدفقت المليارات، بلا حسيب أو رقيب، تحت يافطة براقة خادعة هي “دعم الانتقال الديمقراطي”. وتشير تقارير رسمية، مثل تقرير محكمة المحاسبات التونسية الصادر في فيفري 2021، إلى الارتفاع الهائل في حجم التمويلات الأجنبية الموجهة للجمعيات، حيث قفز هذا التمويل من حوالي 1.8 مليون دينار سنة 2010 إلى ما يناهز 33.7 مليون دينار خلال الأشهر السبعة الأولى فقط من سنة 2019. ولم تكن تلك الأموال سوى طُعم لإنشاء كتلة هجينة، أُطلق عليها اسم “المجتمع المدني”، سرعان ما تمددت كالأخطبوط لتغزو الفضاء العام، وتحتكر لنفسها صفة “الفاعل” الأوحد، وتصعد بسرعة البرق إلى واجهة المشهد، بينما أُزيحت نخب النضال السياسي والنقابي الأصيلة، تلك التي حملت على عاتقها عبء المواجهة لعقود، إلى الظل.

جرى انتقاء الوجوه بعناية فائقة: شبان وشابات، يتقنون اللغات الأجنبية بطلاقة، ويُحسنون فنون العرض والإلقاء، ويتمتعون بقدرة مذهلة على استيعاب منطق “المشاريع” و”التمويلات” بسرعة قياسية. فُتحت لهم أبواب المنابر الإعلامية على مصاريعها، ودُفعوا لتأسيس جمعيات ومنظمات – شهدت تونس إحداث أكثر من 13 ألف جمعية جديدة بين 2011 و2020 ليصل العدد الإجمالي إلى أكثر من 23 ألف جمعية، وفقاً لبيانات مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات – صُممت على مقاس أجندات الممولين، ليتحولوا في لمح البصر إلى “متحدثين رسميين” باسم “الشباب الثائر” و”المجتمع المدني الفاعل”، رغم أن الغالبية الساحقة منهم لم تطأ أقدامهم يوماً ساحات النضال الحقيقي، ولم يعيشوا تجربة الكفاح الجماعي من خنادق المهمشين والمقهورين.

منظمات تحمل أسماء رنانة مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، والصندوق الوطني للديمقراطية (NED)، والمعهد الجمهوري الدولي (IRI)، ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية (MEPI)، ومؤسسات المجتمع المفتوح (Open Society)، ومؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية (Friedrich Ebert)، توغلت في مفاصل الدولة والمجتمع التونسي بقوة، ليس كجهات دعم بريئة تسعى للخير، بل كأذرع تنفيذية لمشروع أوسع يهدف إلى إعادة هندسة النسيج السياسي والاجتماعي بما يخدم مصالحها ويضمن “الاستقرار النيوليبرالي” المنشود. هذا الاستقرار لا يعني سوى منع أي انفجار اجتماعي محتمل، مع الحفاظ على جوهر المنظومة الاقتصادية الريعية والفاسدة التي أفقرت الشعب وأوصلت البلاد إلى حافة الانهيار.

المفارقة الصارخة، بل الفضيحة المدوية، أن مؤسسات مثل المعهد الجمهوري الدولي (IRI)، والمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (IFES)، والمعهد الديمقراطي الوطني (NDI)، لم تكتفِ بلعب دور “المراقب المحايد” للعملية السياسية، كما يُفترض، بل انخرطت بشكل مباشر في صياغة قواعد اللعبة السياسية ذاتها، مستغلةً حالة الهشاشة والارتباك التي طبعت المرحلة الانتقالية. فالمعهد الجمهوري الدولي، على سبيل المثال، نجح في التغلغل إلى عمق المؤسسة التشريعية، البرلمان، عبر برامج معنونة بـ”بناء قدرات النواب”. تحت هذا الغطاء، نظم ورشات عمل، وموّل زيارات خارجية مشبوهة، ودفع بـ”مستشارين” أجانب ليصولوا ويجولوا في أروقة اللجان البرلمانية السيادية. لم تكن تلك “المساعدات” بريئة أو محايدة قط، بل كانت محاولة ممنهجة لإعادة توجيه مسار التشريع وصياغة السياسات العامة من داخل البرلمان، ولكن بمنطق يخدم أجندات خارجية، وبعيداً كل البعد عن منطق التمثيل الشعبي الحقيقي والإرادة الوطنية المستقلة.

وفي دهاليز وزارة الشؤون المحلية، على سبيل المثال لا الحصر، انبرت جمعيات ممولة بسخاء من الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لبلورة “رؤى” و”مقترحات” لإصلاح منظومة اللامركزية. لكن هذا “الإصلاح” المزعوم لم يكن يوماً استجابة حقيقية لتطلعات الجهات المهمشة وحاجاتها التنموية الملحة، بقدر ما كان يهدف إلى خدمة تصور فوقي، يُمهّد الطريق لمزيد من تفكيك الدولة الوطنية وإضعاف دورها المركزي، وإعادة هيكلتها لتصبح مجرد مُسهّل لعمل شركات الخدمات الكبرى، المحلية منها والأجنبية.

في قلب العاصمة، داخل المكاتب الفخمة ذات الواجهات الزجاجية البراقة، كانت تُعقد اللقاءات وتُبرم الاتفاقيات تحت شعار “الشراكة” و”التعاون”. لكنها في حقيقتها لم تكن سوى شكل متقدم من أشكال الاختراق الناعم والوصاية المقنّعة. جمعيات أجنبية، أو محلية بواجهات أجنبية، تُموَّل بسخاء تحت غطاء “التعاون مع مؤسسات الدولة”، لتتمكن من ولوج الوزارات والهيئات الرسمية، والتأثير في برامج التكوين والتأهيل، وتعديل السياسات العامة، ومرافقة “الإصلاحات” الهيكلية. وهنا، كلمة “إصلاح” لا تعني سوى المزيد من الخصخصة للمؤسسات العمومية، وتقليص الأجور والامتيازات الاجتماعية، وتكريس مبادئ “الحوكمة الرشيدة” وفقاً للمعايير التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي أثبتت فشلها الذريع في كل مكان طُبقت فيه.

وفي خضم هذا المناخ الموبوء بالتدخلات الخارجية والمال المشبوه، بزغت منظمات محلية كالفطر، مستفيدة من هذا الانفتاح غير المحسوب العواقب. منظمات مثل “أنا يقظ” (I WATCH)، التي انطلقت بشعار برّاق هو “محاربة الفساد”، لتنتهي في نهاية المطاف إلى تمجيد “الشفافية الشكلية” ضمن الأطر التي يرسمها الممول الأجنبي، دون الاقتراب من جذور الفساد الحقيقية. أو منظمة “البوصلة” (Al Bawsala)، التي ركزت جهودها على “مراقبة أداء البرلمان”، لكنها لم تجرؤ يوماً على الاقتراب من منابع القرار الفعلي ومراكز القوى الحقيقية: السياسات الاقتصادية الكبرى، منظومة الدَّين العام الخانقة، ودوائر النفوذ المالي المتغلغلة في مفاصل الدولة.

وأمام هذه الجوقة المنظمة والممولة بسخاء، تم إغراق المشهد العام بسيل من القضايا الهامشية والمفتعلة، وجرى التعتيم الممنهج على القضايا المصيرية والحارقة التي تؤرق المواطن التونسي: البطالة الهيكلية المتفشية بين الشباب، انقراض القطاع الفلاحي وتدمير الأمن الغذائي، هيمنة رأس المال الطفيلي والكمبرادوري على الاقتصاد الوطني، نزيف هجرة الأدمغة والكفاءات، والانهيار المتسارع لمنظومتي التعليم العمومي والصحة العمومية. وبدلاً من مواجهة هذه التحديات الكبرى، شُغِل الرأي العام بندوات وورشات عمل حول “النوع الاجتماعي في المجالس البلدية”، و”تمكين الشباب من الولوج إلى صنع القرار المحلي”، و”دور الرواية الأدبية في مقاومة التطرف العنيف”. لقد أصبحنا نعيش، بكل ما للكلمة من معنى، حفلة تنويم مغناطيسي جماعي، تُغيَّب فيها القضايا الحقيقية لصالح نقاشات شكلية لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

بعد عام 2014، ومع انكشاف زيف الصراع الهوياتي المصطنع بين تيارات يمينية تتقاطع مصالحها في تبني نفس الخيارات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة، عادت الحركات الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية لتطل برأسها من جديد، حاملةً مطالب حقيقية ومشروعة. لكن سرعان ما وُوجهت هذه التحركات بمحاولات احتواء وتدجين ممنهجة. فمن خلال ما أُطلق عليه “الدورات التكوينية” و”برامج بناء القدرات”، أُعيد استيعاب العديد من الشبان الناشطين، وتم إغراقهم في شبكات معقدة من التمويل والاعتراف الدولي المزعوم، وفُرضت عليهم مفاهيم ومقولات جديدة، ظاهرها بريء وباطنها مسموم: “الحياد الإيديولوجي”، “الحوكمة الجيدة”، و”السياسات المبنية على الأدلة” (evidence-based policies). مقولات تهدف في جوهرها إلى نزع أي نفس نقدي أو جذري عن هؤلاء الشباب، وتحويلهم إلى مجرد أدوات طيعة في يد الممولين.

وهنا، يبرز “معهد تونس للسياسة” كنموذج صارخ لهذا التوجه الخطير. فهذه المؤسسة، التي تُقدم نفسها كمنارة للفكر ومركز للتدريب، تعمل في الواقع على تدريب السياسيين والنقابيين على “فن التوافق” و”قبول الأمر الواقع”، فتقتل فيهم روح الجرأة والمبادرة، وتُعيد إنتاج نفس الخطاب السياسي المروّض والمُفرغ من أي محتوى ثوري أو تغييري حقيقي. تخرج من برامج هذا المعهد، وفقاً لتقارير المعهد نفسه، أكثر من تسعمائة ناشط شاب، تبوأ العديد منهم لاحقاً مناصب قيادية في أحزابهم السياسية، وفاز بعضهم بمقاعد في البرلمان أو المجالس البلدية. لكنهم جميعاً، أو جلّهم على الأقل، انتهوا إلى نفس الخانة الرمادية القاتمة: خانة الحياد الإيديولوجي المزعوم، والتقنوقراطية المتعالية المنفصلة عن هموم الشعب وقضاياه الحقيقية.

وهكذا، وبفعل هذه الهندسة الاجتماعية والسياسية الممنهجة، تحوّلت السياسة في تونس، تدريجياً، إلى مجرد مهنة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، مهنة بلا هوية وبلا قضية. وأصبح العمل الجمعياتي، الذي كان يُفترض به أن يكون تطوعياً ونضالياً، مجرد سوق للتوظيف والارتزاق. وصار لقب “الناشط المدني” ماركة مسجلة، تُسوَّق في المؤتمرات الدولية والندوات الفخمة، بينما تُفرَغ السياسة، في الواقع الملموس، من كل معنى نبيل، وتُقتَل روحها الثورية رويداً رويداً، على مرأى ومسمع من الجميع.

اليوم، ما تبقّى من تلك الشبيبة التي تزعم أنها “تدافع عن قيم الديمقراطية” أو “تحمل هموم وقضايا الشعب”، ليس في الغالب سوى شريحة اجتماعية تدافع بشراسة عن الامتيازات والمصالح التي اكتسبتها بفضل هذا النظام المموَّل. شريحة لم تعد قادرة حتى على تخيّل حياتها أو مستقبلها خارج هذا الإطار الضيق الذي رسمه لها المانحون الدوليون. لقد تمّت خصخصة الحلم الثوري النبيل، وأصبح التمويل الأجنبي هو الحَكَم الأوحد، واللاعب الأساسي، والموجه الخفي في الميدان.

وفي نهاية هذا المطاف المرير، نتساءل بحرقة: تلك المليارات الطائلة، التي تشير تقديرات محكمة المحاسبات إلى أنها تجاوزت عشرات الملايين من الدينارات سنوياً كتمويل أجنبي مباشر للجمعيات منذ 2011، لو أنها صُرفت حقاً على بناء المدارس العمومية وتجهيزها، أو على تطوير المستشفيات والمراكز الصحية وتوفير الدواء للمواطنين، أو على دعم صغار الفلاحين وحماية المنتوج الوطني، ألم تكن لتُغيّر وجه تونس البائس فعلاً؟ بلى، ولكن يبدو أن لا أحد من هؤلاء “الشركاء” و”المانحين” أراد تغييراً حقيقياً. كل ما أُريدَ، وما زال يُراد، هو صناعة واجهة ديمقراطية شكلية، ناعمة الملمس، بلا جذور شعبية حقيقية، بلا أنياب أو مخالب، وبالتالي، بلا أي خطر على مصالحهم، وبلا شعب حقيقي يمتلك قراره ومصيره.

إن هذا الواقع المرير لا ينبغي أن يدفعنا إلى اليأس المطلق، بل إلى مزيد من الوعي واليقظة. فالتحدي المطروح اليوم أمام القوى الوطنية الحية في تونس، من سياسيين ومثقفين ونقابيين وشباب واعٍ، هو كيفية بناء جبهة وطنية عريضة قادرة على استعادة زمام المبادرة، وفرض أجندة وطنية حقيقية للتغيير. يتطلب الأمر أولاً وقبل كل شيء، شفافية كاملة حول مصادر تمويل كل الفاعلين في المشهد العام، ووضع آليات رقابة شعبية صارمة على هذا التمويل. كما يستدعي الأمر إعادة الاعتبار للعمل السياسي المبدئي، القائم على الانحياز لمصالح الشعب، بعيداً عن إغراءات المال السياسي والارتزاق من الموائد الأجنبية. إن بناء ديمقراطية حقيقية، ذات سيادة، تنبع من إرادة الشعب وتخدم مصالحه، لا مصالح القوى الخارجية وأدواتها المحلية، هو معركة طويلة وشاقة، لكنها ليست مستحيلة. فهل يستفيق الحلم التونسي من جديد، هذه المرة على أيدٍ أمينة وقلوب مخلصة؟ سؤال يظل معلقاً، وإجابته لن تأتي إلا من رحم النضال المستمر والإرادة الشعبية الحرة.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French