25 جويلية: بين الأمل والتحديات …
محمد امين الجربي

يُعدّ الخامس والعشرون من جويلية تاريخًا مفصليًا في الذاكرة التونسية المعاصرة، ليس فقط لما يحمله من رمزية تاريخية عريقة تعود إلى إعلان الجمهورية عام 1957، بل لما شهده عام 2021 من تحوّل عميق أعاد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في بلادنا. بالنسبة لي، كشخص عايش العشرية الماضية بكل مرارتها، كان هذا اليوم بمثابة فرصة سانحة لطي صفحة من الكوابيس والأحلام المحطمة. لقد كانت سنوات عجاف، حيث تآكلت فيها آمالنا وطموحاتنا، ووجدنا أنفسنا في طريق لم يكن هو الذي انتظرناه، طريقًا مليئًا بالخيبات والأذى النفسي الذي تسبب فيه نظام ما بعد الثورة.
هذا المقال ليس مجرد تحليل سياسي جاف، بل هو شهادة حية من يؤمن بأن ما حدث في 25 جويلية 2021 كان ضرورة حتمية، وإن لم يكن خاليًا من التحديات. سنسعى هنا إلى تسليط الضوء على المكتسبات التي تحققت، مع نظرة نقدية بناءة للمسائل التي لا تزال تتطلب معالجة، لا سيما على الصعيدين الاقتصادي والمؤسساتي، لنقدم رؤية شاملة تعكس الأمل في تونس أجمل وأغلى.
1- 25جويلية 2021: قطيعة ضرورية مع ماضٍ مؤلم
لم يكن 25 جويلية 2021 وليد الصدفة، بل كان نتيجة حتمية لتراكمات عشرية كاملة من الإحباط وخيبة الأمل. بالنسبة لي، ولكثيرين غيري، كانت تلك السنوات بمثابة “كابوس” حقيقي، حيث ارتفع سقف التوقعات بعد الثورة ليصطدم بواقع مرير. كنا نأمل في بناء دولة قوية وعادلة، لكننا وجدنا أنفسنا أمام مشهد سياسي متفسخ، واقتصاد منهار، ومؤسسات دولة تتآكل يوما بعد يوم.
لقد عانيت شخصيًا من “الأذية النفسية” التي سببتها “مليشيا النظام” الذي حكم بعد الثورة، وهو شعور يتقاسمه معي الكثيرون ممن شعروا بأن الدولة تخلت عنهم. الحديث عن “الديمقراطية والحرية” أصبح مجرد “ترهدين” فارغ من المعنى، في ظل واقع مرير وتغول المصالح الضيقة على حساب المصلحة الوطنية. لقد وصل “تفتت الدولة” إلى مستويات خطيرة، وتفاقم الدين العام، وعقدت تحالفات مشبوهة هددت النسيج الاجتماعي والسيادة الوطنية.
من هذا المنطلق، جاء 25 جويلية كـ”رد اعتبار” شخصي ووطني. لقد كانت خطوة جريئة وضرورية لوقف هذا النزيف، ومنع البلاد من الانزلاق نحو الفوضى الشاملة. كانت صرخة شعب بأكمله، وتجسيدًا لإرادة التغيير التي طال انتظارها. لقد كانت بداية “مسيرة لا رجعة فيها نحو تحقيق تطلعات الشعب”، ووضع حد لعشرية من الضياع والتيه.
2- مكتسبات 25 جويلية: طريق جديد لتونس
لقد أحدث 25 جويلية 2021 تحولًا جذريًا في المشهد التونسي، وفتح آفاقًا جديدة لمستقبل البلاد. من أبرز مكتسبات هذه المرحلة، يمكننا الإشارة إلى:
1. وضع حد لفترة من عدم الاستقرار وخيبة الأمل: لقد كانت العشرية التي سبقت 25 جويلية فترة عصيبة، اتسمت بالصراعات السياسية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتزايد الإحباط الشعبي. جاء 25 جويلية ليضع حدًا لهذا المسار، ويعيد الأمل في إمكانية بناء مستقبل أفضل.
2. استعادة هيبة الدولة وسلطتها: في ظل الفوضى التي سادت قبل 25 جويلية، تراجعت هيبة الدولة وتآكلت سلطتها. لقد عملت الإجراءات المتخذة في هذا اليوم على استعادة هذه الهيبة، وتعزيز قدرة الدولة على فرض القانون والنظام، وحماية مصالح المواطنين.
3. إرساء دستور جديد (2022): يمثل الدستور الجديد خطوة مهمة نحو بناء إطار قانوني ومؤسساتي جديد للدولة التونسية. ورغم الجدل الذي رافقه، فإنه يهدف إلى تحقيق الاستقرار السياسي، وتحديد صلاحيات السلطات، وضمان حقوق وحريات المواطنين.
4. الجهود المبذولة لإصلاح الوضع الاقتصادي: على الرغم من التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها تونس، فقد بذلت جهود حثيثة لمعالجة الأزمات المتراكمة. تهدف هذه الجهود إلى تحقيق الاستقرار المالي، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، وتحسين مستوى معيشة المواطنين. ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا، إلا أن هناك إرادة واضحة لتحقيق الإصلاح الاقتصادي الشامل.
لقد كان 25 جويلية بمثابة نقطة تحول، أعادت لتونس جزءًا من كرامتها وهيبتها، وفتحت الباب أمام مسار جديد، وإن كان محفوفًا بالتحديات، فإنه يحمل في طياته أملًا كبيرًا في بناء تونس قوية ومزدهرة.
3- المشهد المؤسساتي الجديد: البرلمان والمجلس الوطني للجهات والأقاليم
لم يقتصر التغيير الذي أحدثه 25 جويلية على الجانب التنفيذي فحسب، بل امتد ليشمل المشهد المؤسساتي برمته، مع إعادة تشكيل السلطة التشريعية بما يتماشى مع الرؤية الجديدة للدولة. لقد كان البرلمان، أو ما كان يعرف بـ”مجلس نواب الشعب” قبل 25 جويلية 2021، محل انتقاد واسع النطاق. فقد اتسم أداؤه بالفوضى، والانسداد السياسي المتكرر، وضعف الرقابة على الحكومة، مما أدى إلى تعطيل مصالح البلاد وتفاقم الأزمات. لقد كان هذا البرلمان، في نظر الكثيرين، جزءًا لا يتجزأ من المشكلة، وليس حلًا لها، حيث تحول إلى ساحة للمناكفات السياسية والمصالح الضيقة، بدلًا من أن يكون صوت الشعب ومعبرًا عن تطلعاته.
بعد 25 جويلية، تم تعليق عمل هذا البرلمان، ثم حله لاحقًا، ليتم إرساء برلمان جديد بموجب الدستور الجديد لعام 2022. ورغم أن الانتخابات التي أفرزت هذا البرلمان شهدت نسبة مشاركة ضعيفة، إلا أن الهدف من هذا التغيير كان واضحًا: بناء سلطة تشريعية أكثر فعالية، وأقل عرضة للابتزاز السياسي، وأكثر قدرة على خدمة المصلحة الوطنية. يرى مؤيدو هذا التوجه أن البرلمان الجديد، بصلاحياته المعدلة، يمثل قطيعة مع الماضي، وخطوة نحو ترشيد العمل البرلماني وتخليصه من الشوائب التي علقت به.
ولتعزيز مبدأ اللامركزية وإشراك الجهات والأقاليم في عملية صنع القرار، تم إحداث “المجلس الوطني للجهات والأقاليم” كغرفة ثانية للبرلمان. يهدف هذا المجلس إلى أن يكون صوت المناطق، وأن يضمن تمثيلًا عادلًا لمختلف الجهات والأقاليم في السلطة التشريعية. من خلال هذا المجلس، يُنتظر أن يتم تعزيز التنمية المحلية، ومراقبة السياسات الجهوية، وضمان توزيع عادل للثروات والمشاريع على كامل تراب الجمهورية. إن هذا الهيكل الجديد يمثل أملًا كبيرًا في تحقيق تنمية متوازنة وشاملة، وإصلاحًا عميقًا للحوكمة المحلية، التي طالما عانت من الإهمال والتهميش. ورغم التحديات التي قد تواجه هذا المجلس في بداية عمله، إلا أنه يحمل في طياته إمكانات هائلة لتحقيق نقلة نوعية في مسار اللامركزية في تونس.
4- تقييم تجربة الحكم المحلي واللامركزية
لطالما كانت اللامركزية والتنمية المحلية من الشعارات البراقة التي رفعت في تونس، بهدف تحسين الخدمات العمومية، وتعزيز مشاركة المواطنين في الشأن المحلي، وتحقيق تنمية متوازنة بين الجهات. لكن التجربة السابقة للحكم المحلي، رغم النوايا الحسنة، واجهت تحديات جمة حدت من فعاليتها. فقد عانت البلديات من نقص حاد في الموارد المالية والبشرية، وتداخل في الصلاحيات مع السلطة المركزية، وضعف في التنسيق بين مختلف المتدخلين، ناهيك عن تفشي بعض مظاهر الفساد التي أعاقت مسيرة التنمية.
لقد أظهرت التقييمات المختلفة أن البلديات لم تتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة منها بشكل كامل، وأن الفجوة بين تطلعات المواطنين والواقع المحلي ظلت قائمة. كانت هناك حاجة ماسة إلى إصلاح شامل للحوكمة المحلية، يعيد النظر في الإطار القانوني والمؤسساتي، ويوفر للبلديات الإمكانيات اللازمة للاضطلاع بدورها كاملاً. كما أن غياب آليات رقابية فعالة، وضعف الشفافية في بعض الأحيان، أثر سلبًا على ثقة المواطنين في هذه الهياكل.
في سياق 25 جويلية، ومع إحداث المجلس الوطني للجهات والأقاليم، تبرز آفاق جديدة لتجربة الحكم المحلي. يُعول على هذا المجلس في دعم مسار اللامركزية، وتوفير إطار مؤسساتي يضمن تمثيل الجهات والأقاليم، ويعزز قدرتها على المساهمة في صياغة السياسات العمومية وتنفيذها. إن الهدف هو بناء حوكمة محلية أكثر كفاءة، وأكثر شفافية، وأكثر قربًا من المواطن، قادرة على الاستجابة لتطلعاته وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. إنها فرصة لتصحيح مسار طويل، ووضع أسس متينة لحكم محلي يخدم تونس وشعبها.
5- التحديات والنقد البناء: نحو مستقبل أفضل
إن مسيرة 25 جويلية، رغم إنجازاتها، لا تخلو من التحديات التي تتطلب معالجة حكيمة ونقدًا بناءً لضمان استمرار التقدم وتحقيق الأهداف الكبرى. إنني، كصحفي مساند لهذه المسيرة، أرى أن النقد هو جزء لا يتجزأ من عملية الإصلاح، وهو ضروري لتقويم المسار وتجاوز العقبات.
1. التحديات الاقتصادية المستمرة: يظل الاقتصاد التونسي هو المحك الحقيقي لنجاح هذه التجربة. فالدين العام المتراكم، الذي بلغ مستويات مقلقة، ومحدودية الوصول إلى رؤوس الأموال الأجنبية، يضعان ضغوطًا هائلة على الميزانية العامة. ورغم الجهود المبذولة لترشيد الإنفاق وتحسين المؤشرات الاقتصادية، فإن النمو الاقتصادي لا يزال بطيئًا، ولم يحقق بعد القفزة النوعية التي تمكنه من خلق فرص عمل كافية للشباب، وتخفيف وطأة البطالة التي تعد من أبرز التحديات الاجتماعية. كما أن معدلات التضخم المرتفعة تواصل تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، مما يزيد من الضغوط المعيشية. إن تحقيق “النمو القوي” والمستدام يتطلب إصلاحات هيكلية أعمق وأكثر جرأة، تشمل تحسين مناخ الاستثمار، وتشجيع المبادرة الخاصة، وتنويع مصادر الدخل الوطني، والتركيز على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. يجب أن تكون هناك رؤية اقتصادية واضحة، مدعومة بخطط تنفيذية محددة، لضمان اقتصاد أكثر مرونة وقدرة على الصمود أمام الصدمات الخارجية، وتحقيق الرفاه الاجتماعي.
2. مسألة المحكمة الدستورية: إن غياب المحكمة الدستورية، أو التأخر في إرسائها وتفعيل دورها، يمثل نقطة ضعف مؤسساتية لا يمكن إغفالها. فالمحكمة الدستورية هي الضامن الأسمى لسمو الدستور، وحامية الحقوق والحريات، وصمام الأمان الذي يضمن توازن السلطات ويمنع أي تجاوزات. إن استقلاليتها وحيادها ضروريان لتعزيز دولة القانون والمؤسسات، وضمان الشفافية والعدالة في المشهد السياسي. إن إرساء هذه المحكمة، وتفعيلها بشكل كامل، سيعزز الثقة في النظام القضائي، ويوفر مرجعية قانونية عليا لحل النزاعات الدستورية، مما يساهم في استقرار المشهد السياسي ويضمن استكمال البناء الديمقراطي على أسس صلبة.
إن هذه التحديات لا تقلل من أهمية 25 جويلية كحدث تاريخي، بل هي دعوة لمواصلة العمل بجدية أكبر، وتصحيح الأخطاء، والاستفادة من الدروس المستخلصة. إن تونس تستحق الأفضل، ومسيرة الإصلاح يجب أن تستمر بخطى ثابتة، مع الأخذ في الاعتبار كل هذه الملاحظات البناءة، لضمان مستقبل مشرق لبلادنا.
خاتمة
في الختام، يبقى 25 جويلية 2021، بالنسبة لي، أكثر من مجرد تاريخ؛ إنه نقطة تحول، فرصة أعادت لتونس الأمل في استعادة كرامتها ومكانتها. لقد كانت خطوة جريئة، وإن كانت محفوفة بالمخاطر، إلا أنها كانت ضرورية لإنقاذ البلاد من براثن الفوضى والفساد الذي استشرى في العشرية الماضية. إن ما تحقق ليس قليلًا، بل هو أساس نبني عليه مستقبلًا أفضل.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نغفل أن المسار لم يكن ورديًا بالكامل. فبعض القرارات والتوجهات قد أدت إلى ما يمكن تسميته بـ”التصحر السياسي”، حيث تراجعت مساحات التعددية والحوار، وتقلصت الأصوات المعارضة، مما أثر على حيوية المشهد السياسي. إن تونس، بتاريخها الغني بالتنوع، تحتاج إلى حوار شامل يضم جميع أطيافها، لضمان بناء ديمقراطي حقيقي ومستدام.