الاستقطاب السياسي في تونس: بين التطرف المعارض والولاء الأعمى - صوت الضفتين

الاستقطاب السياسي في تونس: بين التطرف المعارض والولاء الأعمى

 

I. مقدمة: واقع الانقسام السياسي الحاد

تشهد الساحة السياسية التونسية في الوقت الراهن حالة من الاستقطاب الحاد والانقسام العميق الذي يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد. هذا الاستقطاب ليس مجرد خلاف سياسي عادي يمكن تجاوزه بالحوار والتفاوض، بل هو انشطار جذري في الرؤى والمناهج والأهداف، يعكس أزمة عميقة في فهم طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها تونس منذ أحداث 25 جويلية 2021.

إن هذا الانقسام لا يقتصر على النخب السياسية فحسب، بل يمتد ليشمل قطاعات واسعة من المجتمع التونسي، مما يخلق حالة من التوتر الاجتماعي والسياسي تعيق أي محاولة جدية للإصلاح أو التقدم. والأخطر من ذلك أن هذا الاستقطاب يتم استغلاله من قبل قوى خارجية وداخلية لتحقيق أجندات ضيقة على حساب المصلحة الوطنية العليا.

II. الطرف الأول: المعارضة الديمقراطية وإشكالية الخروج من الخطاب السيادي

أ. تعريف هذا التيار وخصائصه

يتشكل الطرف الأول من هذا الاستقطاب مما يطلقون على أنفسهم “المعارضة الديمقراطية”، وهم مجموعة متنوعة من الأحزاب والحركات والشخصيات السياسية التي تجمعها رؤية واحدة: إسقاط النظام الحالي بأي وسيلة كانت، دون اعتبار للشرعية أو للمصلحة الوطنية.

الخاصية الأولى والأهم هي خروجهم الكامل من الخطاب السيادي التونسي، إذ يتبنون خطاباً يتماهى مع الأجندات الخارجية، خاصة الأوروبية والأمريكية، ويقبلون التدخل الأجنبي كشأن طبيعي

.ب. استعدادهم للتحالف مع أي قوة لإسقاط النظام

يُظهر هذا التيار استعدادًا مقلقًا للتحالف مع أي جهة، حتى إن كانت فاسدة أو معادية للمصلحة الوطنية، طالما تشاركهم هدف إسقاط النظام. هذا يكشف غياب البوصلة الأخلاقية والسياسية.

ج. غياب البرنامج والرؤية البديلة

رغم رفعهم شعارات الديمقراطية، فهم عاجزون عن تقديم برامج واضحة أو حلول واقعية. الغياب يعكس أزمة فكرية عميقة وعدم جاهزية لتولي الحكم.

د. حمل نفس المسلكية التي رفضها الشعب

يمارسون نفس المحاصصة والانتهازية التي ثار ضدها الشعب، مما يفقدهم الشرعية ويجعلهم امتدادًا للأزمة لا بديلاً عنها.

III. الطرف الثاني: مجموعات الولاء الأعمى وثقافة التصفيق

أ. نشأة هذه المجموعات وخصائصها

تشكلت بعد 25 جويلية 2021، وتتميز بولاء مطلق للسلطة، دون تقييم أو نقد. تنطلق من دعم المسار الجديد لكنها تحوّله إلى عبادة شخصية.

ب. ثقافة التصفيق والموافقة المطلقة

تصفق لكل قرار دون تمييز، بل وتصفق للتراجع عن القرارات بنفس الحماسة، مما يفقد العملية السياسية مصداقيتها ويخلق استبداداً ناعماً.

ج. أساليب الشتم والتخوين

تلجأ للشتم والتخوين ضد كل ناقد، وتدعي امتلاك معلومات خطيرة للتخويف، في حين لا تمتلك سوى خطاب بلا مضمون.

د. التشابه مع ممارسات العهد السابق

تمارس نفس أساليب التملق والنفاق التي كانت سائدة في عهد بن علي، وتكرس عقلية الخضوع لا النقد، مما يهدد المسار الإصلاحي.

IV. تونس تستحق أفضل من هذا الصراع العقيم

أ. الحاجة إلى تجاوز الاستقطاب الحاد

تونس تواجه تحديات جسيمة لا تحتمل مزيداً من الانقسام، والاستقطاب الحالي لا يخدم إلا أعداء تونس في الداخل والخارج.

ب. وجود قوى عقلانية وسطية

هناك قوى عقلانية في النقابات، المجتمع المدني، الجامعات، الإعلام… تقيّم بعقل لا بعاطفة، وتقف على مسافة من الطرفين المتطرفين.

ج. ضرورة التقارب بين القوى العقلانية

يجب أن تتقارب هذه القوى رغم خلافاتها، على أرضية مشتركة تقوم على المصلحة الوطنية والحوار لا الإقصاء.

V. نحو عقلنة الصراع السياسي

أ. مفهوم عقلنة الصراع

تحويل الصراع من مواجهة مدمرة إلى تنافس حضاري يقوم على الحوار، لا التخوين. فالاختلاف لا يعني العداء بل التنوع.

ب. دور البرامج في عقلنة الصراع

كل طرف مطالب ببرامج قابلة للتطبيق، لا شعارات، وبرامج قابلة للنقاش لا نصوص مقدسة.

ج. مواجهة محاولات التدخل الأجنبي

يجب التصدي لمحاولات التدخل الخارجي من موقع الندّية لا التبعية، وتحصين القرار الوطني من الضغوط السياسية والاقتصادية والثقافية.

د. منع الانزلاق نحو الاستبداد

الحذر من تغوّل الأجهزة الإدارية والأمنية، والحرص على تقوية المؤسسات الديمقراطية والرقابة الشعبية لضمان الشفافية.

VI. المسار المطلوب: نحو أفق اجتماعي وديمقراطي حقيقي

أ. تعريف الأفق الاجتماعي والديمقراطي

الهدف ليس فقط الاستقرار، بل بناء تونس جديدة تقوم على العدالة الاجتماعية، والمشاركة الفعلية، والحريات.

ج. دور المجتمع المدني والقوى الحية

المجتمع المدني والنقابات والجامعات والإعلام شركاء لا متفرجون، ودورهم في الرقابة والمبادرة أساسي.

د. التحديات والعقبات

تحديات المسار كثيرة: اقتصاد هش، مقاومة من القوى المستفيدة، ضغوط خارجية، وثقافة سياسية ضعيفة تنتشر بين الناس.

تونس أمام مفترق طرق: إما طريق العقل والبناء والإرادة المشتركة، أو طريق الانهيار والانقسام والعدمية السياسية.

الخيار الأول صعب لكنه ضروري، وهو رهين بإرادة التونسيين والتونسيات في مختلف مواقعهم.

بناء تونس جديدة لا يتحقق إلا بوحدة وطنية حقيقية، تتجاوز الحسابات الضيقة، وتؤمن بالحرية والكرامة والعدالة.

هذا حلم كبير، لكنه ممكن. والشعب التونسي قادر، متى وحّد بوصلته، أن يصنع المعجزات.

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

French