بنصف قلب نقول صباح الخير.... - صوت الضفتين

بنصف قلب نقول صباح الخير….

بقلم/ وصال أبو عليا

مع انبلاج كلّ صباح، نردّد بأنصاف قلوبنا صباح الخير، ونحن نعدّ الفوانيس المتبقّية من الحلكة، حيث لا أفواه لتناول وجبة، ونتعثّر ببقايا بيوتنا التي وئدنا بها، فيما إحداثيّات المكان تغادر الجغرافيا، لنخرج قسرًا..

أفكّر في لحظات تتجاوز كثافة المشهد صوتًا وصورة، كيف عليّ أن أرى واقعًا لمن يقبضون على أنقاض الحياة في غزّة؟ يتشبّثون بصفحة من كتاب، ولعبة طفل، وجديلة شقراء، ويرتكزون على بقايا جدار تسنده ضمّادة التّشبّث بالبقاء..

أفكّر بمتلازمة الدّم والطّحين، الأرض التي فقدت ملامحها، بالموت القادم من كلّ الفصول، الذي بدأ صيفًا، وبالأمّهات اللواتي يلتصقن ببعضهنّ في صقيع كانون، يبحثن عمّا يشعلن به قدرًا فارغًا إلا من بضع حبّات من العدس.

أجتاز عشرات الكيلو مترات التي تمتدّ من رام الله حتى قطاع غزة، المسافة تشتعل تحت ثقل ما حلّ بجثامين الأطفال الذين يئنّون طويلًا تحت الرّكام، وانعدام حيلة الآباء، ويُسحَبون على مهل، قطعة، قطعة.

أحدّق في وجوه من يحملون أرواحهم مع كيس الطّحين ويهرعون باتجاه من تبقّى من عائلاتهم، هذا تمزّقه صواريخ الطّائرات، ويختلط دمه مع الطّحين، وذلك يصاب وآخر لا يصل، والكلّ لا يعرف الوجهة الآمنة.

إنهم شاحبون حدّ الموت المتثاقل، يستعيرون فرحًا بما تبقّى من سقف، وبنصف جدار، بصوت يئنّ تحت كومة البيت، يعبّئون حناجر الأجداد ووصاياهم في جذوع النّخل.

أغادر غزّة، ولا أعرف أين أضع قدمي، تتهاوى روحي وأنا أقترب من حوافّ مجزرة هنا، وأخرى هناك، أعبّئ قطع لحم طازجة في كيس أحمله بيميني، وكان أثقل من البلاد وأطول من الحرب، وبيساري حملت قطعًا من الحلوى، وضعتها على مقاعد للرّيح، ووقع ضحكات مُتعَبة قادمة، يرافقني الصّوت وأنا أختنق.

على الأرض الواحدة، نموت متناثرين، تمحى العائلات من الجدّ إلى الحفيد، في البيت والشّارع والمدرسة والمسجد، وحتى في الخيمة، والبحر يتحوّل إلى قطيع من الأيائل بعيدًا عن فوّهة الوقت، واحتمالات النّجاة.

وصلت إلى رفح، وقلبي يحترق، كأنّها القيامة، لهيب النّار يتساقط من الأعلى، الهواء حامض هنا، وكلّ ذات حمل تضع حملها، وأرى النّازحين ينامون على أنفسهم من شدّة التّعب، وصوت المؤذّن يعلو يناجي ربّ السّماء، كنّا ننتظر أن ينفخ أحد في السّور.

هممت بالعودة لرام الله، بدأت أعدّ أطرافي، أتفقّد زوايا الذّاكرة، هل جسدي كلّه معي؟ لكنّني الآن بنصف قلب ووجعٍ كامل الخطى.

عن جريدة القدس العربي

شارك المقال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق