عالَم ما بعد الجائحة : مقدّمات قَيْد التشكُّل
صوت الضفتين -مقال رأي بقلم سمير باشا
أَظهر تفشّي جائحة ” كوفيد -19″ إلى أيّ مقدار العالَم هو قرية كونيّة بالفعل ، ولكنّ هذه ” الكونيّة ” ليست بمنجاة من مَخاطِر آتية إليها من أحد مراكزها أو أطرافها ، ما كانت ستعرفها لو ظلَّت مجرّد قرية. وخطر هذه الجائحة لا يتجلّى ، فقط ، في اتّساع انتشارها والعدد المُتزايِد من أرواح البشر التي تحصدها ، وإنّما أيضاً في طريقة تعامُل الحكومات والمُجتمعات معها ، التي تنمّ عن فقدان الجاهزيّة ، والفشل في توفير ما يلزم من عدّة وعتاد لمُواجهتها.
بتنا وجهاً لوجه مع عاهاتٍ كثيرة تنخر عالَم البشر. بعضها ظاهر لا يتوارى أبداً ، وبعضها كامن ينتظر الفرصة فقط لمُعاوَدة التذكير بأنّه “حيّ يُرزق ” .
ووباء ” كوفيد – 19″ ، على خطورته وشراسته ، ليس هو التحدّي الوحيد الذي يُواجه العالَم ، فهناك ما لا يقلّ خطورة عنه : الكوارث الطبيعيّة ، الاضطّرابات والنزاعات السياسيّة والاجتماعيّة النّاجمة عن إخفاقنا في بناء مُجتمعات عادلة تصون حقوق أبنائها ، هموم الحياة اليوميّة التي تُثقل كاهل ملايين ، لا بل مليارات البشر ، حمّى الحياة الاستهلاكيّة الفارغة من المعنى ، الحروب العبثيّة المُدمِّرة التي يروح مئات الآلاف ضحايا لها ، الاستهتار وعدم المسؤوليّة في العلاقة مع البيئة المُحيطة ، فأتت الجائحة لا لكي تُكشِّر عن أنيابها القاتلة في وجوهنا فحسب ، وإنّما لتُرينا ، أيضاً ، وبكلّ وضوح ما في عالَمنا من عاهات.
ما هو متيّسر من وقائع رئيسة في التاريخ البشري ، يُرينا أنّ الإنسان مرَّ بمُنعطفاتٍ كبرى ، غيَّرت الكثير فيه وفي المحيط من حوله وفي طريقة تسييره للأمور. بعض هذه المُنعطفات من صنْع البشر أنفسهم. الحروب مثلاً ، سواء الصغيرة منها أم الكبيرة بخاصّة ، والفاصِلة كَونيّاً ، مثل الحربَين العالَميّتَين الأولى والثانية ، ما كانت ستقوم لولا حماقات الإنسان نفسه ، وهو يصارع على النفوذ والثروة والاستئثار بخيرات الكوكب ، وهناك منعطفات أخرى يصعب القول إنّ الإنسان وحده مسئول عنها ، وبينها الجوائح والأوبئة القاتلة التي لها تاريخ أسود في العلاقة مع الإنسان ، ولم يكُن عدد ضحاياها في أزمنة سابقة أقلّ من ضحايا ” كوفيد – 19 “، حتّى اللّحظة على الأقلّ ، لكنْ يُمكن القول إنّه أخطر وباء تُواجهه البشريّة خلال المائة عام الأخيرة.
هذه المحنة أعادت طرح السؤال الفلسفي العميق عن مصير الحياة البشريّة على كوكب الأرض ، فثمّة أطروحات سابقة حذَّر اصحابها من قرب مَوت الإنسان ، لا بمعنى مَوت الأفراد الذي نعرفها ، وإنّما نهاية البشر ككائنات. وأصحاب هذه الأطروحات يرون أنّ البشر ليسوا سوى إحدى دَورات الحياة على الكوكب ، وكما انقرضت الديناصورات وسواها ، فليس هناك ما يَضمن عدم انقراض البشر ذات يوم ، بخاصّة أنّهم لا يتمتّعون ، بيولوجيّاً ، بالكثير من السمات الدفاعيّة التي تتّسم بها الحيوانات ، وتَجعلها أكثر قدرة على التكيّف مع الطبيعة.
سعى الباحثون لإقناعنا بأنّ أفضل أيّام البشر قادمة. حاثّاً إيّانا على ألّا ننساق وراء أخبار الكوارث ، لنحسب أنّ نهاية العالَم أصبحت وشيكة. الصحافيّون ، في رأيه ، يغطّون سقوط الطائرات ويتجاهلون الآلاف المؤلَّفة من الطائرات التي تقلع وتهبط بسلام .
لم يكُن ” كوفيد – 19 ” قد حلّ بعد ، لذلك كان الرجل في منتهى الثقة وهو يقول : ” انظروا إلى موضوع الجدري وطاعون الماشية في ” ويكيبيديا “، ستجدون أنّ هذه التعاريف عائدة إلى الزمن الماضي” ، ما يعني أنّ اثنَين من أكبر مَصادر الشقاء في الوجود البشري تمّ اقتلاعهما إلى الأبد ” .
ولكنّ ” كوفيد – 19 ” بدَّد هذا الوَهْم ، فما حسبناه ماضياً فقط ، لا عودة له ، عاد إلينا بمنتهى الشراسة والعدوانيّة.
وفضلاً عن كلّ ما كان البشر يعتقدون أنّهم بلغوه من تقدّمٍ في العلوم ، بما فيها الطبّ ، فإنّهم أظهروا ، حتّى إشعارٍ آخر ، قلّة حيلتهم أمام هذا الفيروس ، وعجزْهم عن التصدّي الفعّال له ، والقضاء عليه ، على الرّغم من أنّ الأطبّاء والعُلماء المُختصّين حذّروا ، قبل سنوات ، من أنّ وباءً عالَميّاً ناجِماً عن بعض سلالات الأنفلونزا مُقبِلٌ لا محالة ، وأنّ هذا الوباء قد يأتي قريباً جدّاً ويُمكن أن يتأخّر سنوات ، ما يَقتضي “وضْع ما يُمكن أن نُطلِق عليه خِطط الطوارئ لمُواجهته مُبكّراً ، بالعمل على إعاقته ، وهو في بداياته ,
” ولعلّ ما يُعاني منه العالَم اليوم من وباء هو نفسه الذي توقَّع العُلماء حدوثه وحذَّروا منه ، وطالَبوا بخِطط طوارئ استباقيّة لمُواجهته ، وهذا ما لم يفعله العالَم للأسف ، بل إنّ أوّل طبيب صيني لاحظَ ظهور الفيروس عُوقِب من سلطات بلاده ، قبل أن يستفحل وينتشر ويتحوّل إلى وباء يقتل الناس ، فيما ظلّ الكثير من زُعماء العالَم ، حتّى وقت قريب ، يَسخرون من الأمر ويُسفّهون المعلومات عن خطره الماحِق.
قد تصل المُختبرات إلى إنتاج لقاحٍ ضدّ هذا الفيروس القاتل ، لكنْ لا أحد يعلم متى سيتمّ ذلك. المعنيّون يؤكّدون أنّ الأمر يحتاج ليس أقلّ من سنة ، وهذا أيضاً
غير مضمون. وحتّى نبلغ تلك اللّحظة ، سيتضاعف حكماً عدد الضحايا والمُصابين عمّا نراه ونعيشه ، وستتوالى الانهيارات الاقتصاديّة ، وتسوء الأوضاع المعيشيّة ، وقد تسقط حكومات أظهرت فشلها في إدارة هذا الملفّ ، ولكنْ ما سيلي مُحاصَرة الوباء ، أو القضاء عليه كما نأمل جميعاً ، لن يكون أقلّ خطورة ودقّة.
وفي حال اجتازَ البشر المِحنة ، سنكون إزاء اللّحظة التي تعقب الانعطافات الكبيرة في الحروب ، كتلك التي عرفها العالَم بعد الحربَين العالَميّتَين الأولى والثانية .
صحيح أنّ نيران الأسلحة لم تُطاق ، والدماء لم تَسل في الحرب ضدّ ” كوفيد – 19″، ولكنّه أَسهم وسيُسهِم في خلْق عالَمٍ جديد ، عالَم تالٍ له.
الحقّ أنّ إرهاصات ومقدّمات العالَم الذي يُعجِّل تفشّي الجائحة في تبلْوره واستوائه ، قائمة بالفعل ، حسبنا هنا أن نُشير إلى بعض المظاهر ، التي ليست هي الجوهريّة بالضرورة ، لكنّها شديدة الأهميّة أيضاً. فقد أَقعدنا “كوفيد – 19″، اضطّراراً ، في بيوتنا ، وحوَّل مُدناً تضجّ بالحياة الصاخبة ولا تنام إلى مُدنِ أشباح ، اختفى البشر من شوارعها ومحلّاتها ومقاهيها وحاناتها و جوامعها ، فأصبح ملاذنا في عالَمٍ آخر ، هو العالَم الافتراضي ، الذي لم يخلقه تفشّي الجائحة
ولكنّ تفشّيها أظهر أنّه سيكون العالَم الموازي ، وربّما البديل ، للعالَم الواقعي ، وأنّ تواصلنا المُقبل قد يكون عن طريقه فقط.
ولم ينشأ العمل عن بُعد ، أو العمل مع المنزل ، مع تفشّي الجائحة ، ولكنّ العالَم ، أو عدداً كبيراً من دوله ، كانت جاهزة له ، وبالتالي فإنّه عوَّض ، ولو جزئيّاً ، عن إغلاق الكثير من الشركات والوزارات والمؤسّسات مقرّاتها ، أو بعض فروعها. وحتّى الدول غير المُستعدّة لهذا النمط من العمل ، لن تَجد مفرّاً ، في حال طالَ أمد الوضع الذي نحن فيه ، من أن تسعى لتهيئة نفسها له.
لا أحدا في تقديرنا ، يضمن أنّ العالَم سيعود عن العادات التي سيُكرِّسها تفشّي الجائحة. على سبيل المثال ، قد يتقلّص حَجمُ الوظائف بنسبة كبيرة ، طالما أصبح بالإمكان تسيير الكثير من أمور الاقتصاد وعالَم المال والشؤون الإداريّة بالعمل عن بُعد ، أو العمل من المنزل ، بأعدادٍ أقلّ من العاملين ، وهو أمر يصبّ في مصلحة الشركات وأصحاب رؤوس الأموال.
لكنّ الأكثر جوهريّة في الأمر ، هو أنّ تفشّي “كوفيد – 19″ أظهر عجْز الدول التي تصف نفسها باللّيبراليّة ، ولاسيّما تلك التي تُجاهر بما يُعرف بـ” اللّيبرالية الجديدة ” في صورتها الأشد أنانيّة وتوحّشاً القائمة على تعظيم أرباح الرأسمال الكبير وغنائمه ، و تهميش أوسع ما يُمكن من الناس ، اقتصاديّاً واجتماعيّاً ، ما أدّى إلى تلاشي الطبقات الوسطى واضمحلالها ، وتردّي الخدمات الاجتماعيّة الضروريّة في مجالاتٍ حيويّة كالتعليم والصحّة ومَرافِق البنية التحتيّة وما إليها ، فانكشف تردّي الخدمات الطبيّة في هذه الدول ، ووجود قطاعات شعبيّة هائلة العدد خارج مظلّة التأمين الصحّي ، التي يستثمر فيها القطاع الخاصّ بالدرجة الأساسيّة ، والمَعنيّ بمُراكَمة الأموال ، أكثر من عنايته بالسلامة البدنيّة للناس.
وكان التعبير الصارخ عن ذلك ما ذهب إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أنّ موت 150-200 ألف أميركي مع خطر فقدان مليونَي مُواطِن لأعمالهم ، هو أهون الشرور. ولا تقلّ فجاجة دعوة رئيس الحكومة البريطانيّة بوريس جونسون إلى ما وصفه باستراتيجيّة ” مناعة القطيع ” التي تعني إطلاق العنان للفيروس كي ينتشر ويأخذ مداه ، قبل أن ينحسر من تلقاء نفسه ، ” مُبشِّراً ” البريطانيّين بأن يستعدّوا لفقْد الكثيرين من أحبّتهم.
مُقدّمات العالَم المُنتظَر
هنا أيضاً يُمكن مُلاحظة أنّ مُقدّمات العالَم المُنتظَر بعد السيطرة على الجائحة ، قد أخذت في التشكُّل منذ عقدَين أو ثلاثة ، فبدرجةٍ كافية من الثقة يُمكن القول إنّ نِظام القطبيّة الأحاديّة قد انتهى ، أخذاً بعَين الاعتبار حقائق من نَوع استعادة روسيا جوانب من مَهابتها الدوليّة التي كانت لها في العهد السوفييتي ، والأهمّ من ذلك هو الصعود الصيني ، بخاصّة من وجهة النظر الاقتصاديّة ، وأتت طريقة تصدّي الصين لتفشّي الفيروس في أراضيها وتمكُنها من احتوائه بسرعة قياسيّة وفي أضيَق نِطاقٍ مُمكن ، لتُقدِّم دليلاً قويّاً على جاهزيّة منظومتها الاقتصاديّة – الاجتماعيّة في التعامُل مع التحدّيات ، التي كان “كوفيد – 19” نموذجاً لها ، فيما لا زالت القوّة الدوليّة الأكبر في العالَم ، الولايات المتّحدة ، تتخبّط في المُعالَجة ، وتنمّ التصريحات المُتناقضة لرئيسها عمّا هي عليه إدارته من ارتباك.
لا يقلّ دلالة تفاقُم مَظاهر التناقُض الأميركي – الأوروبي الذي يتجلّى في طريقة إدارة الرئيس الأميركي لملفّ العلاقات مع أوروبا. فـ ” الأخّ الأكبر ” الأميركي لم يعُد يُظهر ما هو مطلوب من رعايةٍ للأشقّاء الأصغر في أوروبا ، وكان بعض الباحثين الغربيّين ، وبينهم سوسان جورج في كِتابه : ” أنا والعَولمة – عالَم بديل مُمكن “، تمنّى وهو ينطلق من التسليم ببداية أفول الدَّور الأميركي ، أن تكون أوروبا الموحّدة هي البديل ، فلا بديل لعالَم آخر مُمكن من دون أوروبا الواعية لجذورها وثقافتها. بل إنّه يذهب حدّ القول إنّه إذا لم ننجح في إقامة مثل هذا الوعي الأوروبي ، بضرورة نشوء أنموذج مُختلف تماماً عن الأنموذج الأميركي ، كأساسٍ للعالَم البديل ، فإنّ هذا العالَم لن يُصبح مُمكناً ، بل إنّ أوروبا نفسها قد تتحوّل إلى مجرّد قارّة فيها كنائس وقصور جميلة ، ولكنّها فاقِدة للدَّور.
وكشفت الجائحة أنّ أوروبا أبعد ما تكون عن هذا الدَّور ، وها هو اتّحادها يترنّح ، ليس لأنّ بريطانيا ، بكلّ ما لها من ثقل ، قد خرجت منه فحسب ، وإنّما أيضاً لأنّ كبير الدول وصغيرها فيه فشلت في إظهار أيّ تضامُنٍ مُتبادَل في مُواجَهة الكارثة ، ما جعل إيطاليا تُعبِّر عن مَظاهِر الامتنان ، لا إلى الصين وروسيا وحدهما ، لمدّهما يد العون إليها ، إنّما أيضاً إلى كوبا ، الجزيرة الفقيرة المعزولة والمُحاصَرة ، لكنّها برهنت على امتلاكها لواحد من أكثر الأنظمة الصحيّة كفاءة في العالَم. لقد كشف ” الاتّحاد الأوروبي ” عن نفسه ، فإذا به أبعد ما يكون عن الاتّحاد ، وأنّه في الحقيقة مجموعة من الدول – الأُمم التي باتت تفكِّر في مصلحتها ، لا في مصلحة مجموع القارّة. وبالتالي لم يعُد ترامب وحيداً في رفْعه شعار ” أميركا أوّلاً ، فها نحن إزاء “بريطانيا أوّلاً “، و” ألمانيا أوّلاً “، و” فرنسا أوّلاً “… إلخ.
المؤكّد أنّ إدارة مُختلفة للتناقضات القائمة ستُصبح ضرورة لا مناصّ منها ، لكنّ السؤال يبقى : هل ستُغادر البشريّة أوهامها هذه بعد أن ينجح العِلم في قهْر الجائحة ؟
أشكّ في ذلك كثيراً ، بدليل أنّ الرئيس ترامب لم يجد ما يفعله ، وهو يتخبّط في إدارة الأزمة ، سوى التهديد بقطْع المُساعدة عن منظّمة الصحّة العالَميّة !